الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***
فإن لم يكن غيره تعين عليه، وإن كان غيره فهو فرض كفاية ومع هذا لا يحل التسارع إلى ما لا يتحقق، ويشترط إسلام المفتي وعدالته فترد فتوى الفاسق ويعمل لنفسه باجتهاده، ويشترط تيقظه وقوة ضبطه وأهلية اجتهاده فمن عرف مسألة أو مسألتين أو مسائل بأدلتها لم تجز فتواه بها ولا تقليده، وكذا من لم يكن مجتهدا، ولو مات المجتهد لم تبطل فتواه بل يؤخذ بقوله فعلى هذا من عرف مذهب مجتهد وتبحر فيه جاز أن يفتي بقول ذلك المجتهد وليضف إلى المذهب إن لم يعلم أنه يفتى عليه، ولا يجوز لغير المتبحر إلا في مسائل معلومة من المذهب. (فرع) ليس لمجتهد تقليد مجتهد ولو حدثت واقعة قد اجتهد فيها وجب إعادته إن نسي الدليل أو تجدد مشكل. (فرع) المنتسبون إلى مذهب إمام إما عوام فتقليدهم مفرع على تقليد الميت فقد مر، وإما مجتهدون فلا يقلدون فإن وافق اجتهاده اجتهادهم فلا بأس وإن خالفه أحيانا ومن لم يبلغ رتبة الاجتهاد بل وقف على أصول إمامه وتمكن من قياس ما لم ينص عليه على المنصوص فليس بمقلد في نفسه بل هو واسطة فإن نص صاحب المذهب على الحكم والعلة ألحق بها غير المنصوص، ولو نص على الحكم فقط فله أن يستنبط العلة ويقيس وليقل هذا قياس مذهبه لا قوله وإن اختلف نص إمامه في مشتبهين فله التخريج من أحدهما إلى الآخر. (فرع) للمفتي أن يغلظ للزجر متأولا كما إذا سأله من له عبد عن قتله وخشي أن يقتله جاز أن يقول إن قتلته قتلناك متأولا لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل عبده قتلناه»، وهذا إذا لم يترتب على إطلاقه مفسدة واختلاف المفتين كالمجتهدين والله تعالى أعلم. يجب أن يستفتي من عرف علمه وعدالته ولو بإخبار ثقة عارف أو باستفاضة، وإلا بحث عن ذلك فلو خفيت عدالته الباطنة اكتفى بالعدالة الظاهرة ويعمل بفتوى عالم مع وجود أعلم جهله فإن اختلفا ولا نص قدم الأعلم، وكذا إذا اعتقد أحدهما أعلم أو أورع ويقدم الأعلم على الأورع، ولو أجيب في واقعة لا تتكرر ثم حدثت لزم إعادة السؤال إن لم يعلم استناد الجواب إلى نص أو إجماع، وإن لم تطمئن نفسه إلى جواب المفتي استحب سؤال غيره ولا يجب ويكفي المستفتي بعث رقعة أو رسول ثقة ومن الأدب أن لا يسأل والمفتي قائم أو مشغول بما يمنع تمام الفكر، وأن لا يقول بجوابه هكذا قلت: أنا ولا يطالبه بدليل فإن أراده فوقت آخر، وليبين موضع السؤال وينقط المشتبه في الرقعة ويتأملها لا سيما آخرها، ويتثبت ولا يقدح الإسراع مع التحقيق وأن يشاور فيما يحسن إظهاره من حضر متأهلا، وأن يصلح لحنا فاحشا وليشغل بياضا بخط كي لا يلحق بشيء ويبين خطه بقلم بين قلمين ولا بأس بكتبه الدليل لا السؤال، ولا يكتب خلف من لا يصلح، وله أن يضرب عليه إن أمن فتنة وإن سخط المالك وينهى المستفتي عن ذلك، وليس له حبس الرقعة وينبغي للإمام أن يبحث عن أهل العلم عمن يصلح للفتوى ليمنع من لا يصلح وليكن المفتي متنزها عن خوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن حسن التصرف ولو عبدا أو امرأة أو أخرس تفهم إشارته، وليس هو كالشاهد في رد فتواه لقرابة وجر نفع، وتقبل فتوى من لا يكفر ولا يفسق ببدعة كشهادته ويفتي، ولو كان قاضيا وفي اشتراط معرفة الحساب لتصحيح مسائله وجهان، ويشترط أن يحفظ مذهب إمامه، ويعرف قواعده وأساليبه، وليس للأصولي الماهر، وكذا البحاث في الخلاف من أئمة الفقه وفحول المناظرين أن يفتي في الفروع الشرعية ولا يجب إفتاء فيما لا يقع ويحرم التساهل في الفتوى واتباع الحيل إن فسدت الأغراض وسؤال مع عرف بذلك، ولا يفتى في حال تغير أخلاقه وخروجه عن الاعتدال، ولو لفرح ومدافعة أخبثين فإن أفتى معتقدا أن ذلك لم يمنعه عن درك الصواب صحت فتواه، وإن خاطر والأولى أن يتبرع بالفتوى فإن أخذ رزقا من بيت المال جاز إلا إن تعينت عليه وله كفاية، ولا يأخذ أجرة من مستفت فإن جعل له أهل البلد رزقا جاز، وإن استؤجر جاز والأولى كونها بأجرة مثل كتبه مع كراهة، وله قبول هدية لا رشوة على فتوى لما يريد وعلى الإمام أن يفرض لمدرس ومفت كفايته لكل أهل بلد اصطلاح في اللفظ فلا يجوز أن يفتي أهل بلد بما يتعلق باللفظ من لا يعرف اصطلاحهم، وليس له العمل والفتوى بأحد القولين أو الوجهين من غير تعويل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر إن علمه، وإلا فبالذي رجحه الشافعي وإلا لزمه البحث عنه، وإن كان أهلا اشتغل به متعرفا لذلك من القواعد والمأخذ وإلا تلقاه من نقلة المذهب فإن عدم الترجيح توقف، وحكم الوجهين كالقولين لكن لا عبرة بالمتأخر إلا إذا وقعا من شخص فإن اختلفوا في الأرجح، ولم يكن أهلا للترجيح اعتمد ما صححه الأكثر والأعلم وإلا توقف والعمل بالجديد من قولي الشافعي إلا في نحو ثلاثين مسألة وإن كان في الرقعة مسائل رتب الأجوبة على ترتيبها، ويكره أن يقتصر على فيه قولان إذ لا يفيد ولا يطلق حيث التفصيل فهو خطأ، ويجيب على ما في الرقعة لا على ما يعلمه وإن أراده قال إن أراد كذا فجوابه كذا، ويجيب الأول في الناحية اليسرى وإن شاء غيرها لا قبل البسملة، وليكتب الحمد لله وليختم بقوله والله أعلم. ولا يقبح أن يقول في الجواب عندنا وإن تعلقت بالسلطان دعا له فقال وعلى السلطان سدده الله أو شد أزره، ويكره أطال الله بقاءه، ويختصر جوابه ويوضح عبارته وإن سئل عن تكلم بكفر متأول قال يسأل إن أراد كذا فلا شيء عليه، وإن أراد كذا فيستتاب فإن تاب قبلت توبته وإلا قتل وإن سئل عمن قتل أو جرح احتاط، وذكر شروط القصاص ويبين قدر التعزير ويكتب على الملصق من الورقة وإن ضاقت كتب في الظهر، والحاشية أولى لا ورقة أخرى، ويشافهه بما عليه بل إن اقتضاهما السؤال لم يقتصر على أحدهما ولا يلقنه على خصمه فإن وجب الإفتاء قدم السابق بفتوى ثم أقرع نعم يجب تقديم نساء ومسافرين تهيئوا أو تضرروا بالتخلف إلا إن ظهر تضرر غيرهم بكثرتهم، وإن سئل عن الإخوة فصل في جوابه ابن الأبوين أو لأب أو لأم، وإن كان في الفريضة عول قال الثمن عائلا وإن كان في الورثة من يسقط بحال دون حال بينه ويكتب تحت الفتوى الصحيحة إن عرف أنها لأهل الجواب صحيح ونحوه، وله أن يجيب إن رأى ذلك ويختصر، وإن جهل يبحث عن حاله فإن لم يظهر له فله أمره بإبداء لها فإن تعسر أجاب بلسانه، وإن عدم المفتي في بلده وغيرها ولا من ينقل له حكمها فلا يؤاخذ صاحب الواقعة بشيء يصيبه إذ لا تكليف (فرع) أفتاه ثم رجع قبل العمل كف عنه، وكذا إذا نكح امرأة بفتواه ثم رجع لزمه فراقها كما في القبلة، وإن رجع بعد العمل وقد خالف دليلا قاطعا نقضه وإلا فلا وإن كان المفتي يقلد الإمام فنص إمامه وإن كان اجتهاديا في حقه كالدليل القطعي، وعلى المفتي إعلامه برجوعه قبل العمل وكذا بعده إن وجب النقض، وإن أتلف بفتواه لا يغرم ولو كان أهلا ا هـ والله تعالى أعلم. وإن دونت المذاهب كاليوم وله الانتقال من مذهبه لكن لا يتبع الرخص فإن تتبعها من المذاهب فهل يفسق وجهان ا هـ. قال الشارح أوجههما لا والله سبحانه أعلم، وقد عقد في أول التتارخانية فصلين في الفتوى حاصل الأول أن أبا يوسف قال لا تحل الفتوى إلا لمجتهد ومحمد جوزها إذا كان صواب الرجل أكثر من خطئه وعن الإسكاف أن الأعلم بالبلد لا يسعه تركها واختلفوا في الإفتاء ماشيا جوزه البعض، ومنعه آخر واختار الإسكاف أن يفتي إن كان شيئا ظاهرا وإلا لا، وكان ابن سلام إذا ألح عليه المستفتي وقال جئت من مكان بعيد يقول فلا نحن ناديناك من حيث جئتنا ولا نحن عمينا عليك المذاهبا ولكن اختار الفقيه أبو الليث أنه لا يقول ذلك أول مرة فإن ألح أجابه بذلك، وحاصل الثاني أن اختلاف أئمة الهدى توسعة على الناس فإن كان الإمام في جانب وهما في جانب خير المفتي وإن كان أحدهما مع الإمام أخذ بقولهما إلا إذا اصطلح المشايخ على قول الآخر فيتبعهم كما اختار الفقيه أبو الليث قول زفر في مسائل. وإن اختلف المتأخرون أخذ بقول واحد فلو لم يجد من المتأخرين مجتهدا برأيه إذا كان يعرف وجوه الفقه، ويشاور أهله ولا يجوز له الإفتاء بالقول المهجور لجر منفعة ولا يرجو عليه دنيا، ورد مفت زرا على خياط مستفت وقلعه من ثوبه تحررا عن شبهة الرشوة، ومن شرائطها حفظه الترتيب والعدل بين المستفتين لا يميل إلى الأغنياء وأعوان السلطان والأمراء بل يكتب جواب السابق غنيا كان أو فقيرا، ومن آدابه أن يأخذ الورقة بالحرمة ويقرأ المسألة بالبصيرة مرة بعد مرة حتى يتضح له السؤال، ثم يجيب وإذا لم يتضح السؤال سأل من المستفتي ولا يرمي بالكاغد إلى الأرض، وهو لا يجوز وكان بعضهم لا يأخذ الرقعة من يد امرأة ولا صبي، وكان له تلميذ يأخذ منهم ويجمعها ويرفعها فيكتبها تعظيما للعلم، والأحسن أخذ المفتي من كل أحد تواضعا، ويجوز للشاب الفتوى إذا كان حافظا للروايات واقفا على الدرايات محافظا على الطاعات مجانبا للشهوات والشبهات، والعالم كبير وإن كان صغيرا، والجاهل صغير وإن كان كبيرا، وصحح في السراجية أن المفتي يفتي بقول أبي حنيفة على الإطلاق ثم بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد، ولا يخير إذا لم يكن مجتهدا، وإذا اختلف مفتيان يتبع قول الأفقه منهما بعد أن يكون أورعهما وينبغي أن يكتب عقب جوابه والله أعلم أو نحوه وقيل في العقائد يكتب والله الموفق. ونحوه وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل، ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء، وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولا يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى. ا هـ. وصحح في الحاوي القدسي أن الإمام إذا كان في جانب وهما في جانب فالأصح أن الاعتبار لقوة المدرك فإن قلت: كيف جاز للمشايخ الإفتاء بغير قول الإمام الأعظم مع أنهم مقلدون؟ قلت: قد أشكل علي ذلك مدة طويلة ولم أر فيه جوابا إلا ما فهمته الآن من كلامهم، وهو أنهم نقلوا عن أصحابنا أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا حتى نقل في السراجية أن هذا سبب مخالفة عصام للإمام، وكان يفتي بخلاف قوله كثيرا؛ لأنه لم يعلم الدليل، وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به فأقول: إن هذا الشرط كان في زمانهم، أما في زماننا فيكتفى بالحفظ كما في القنية وغيرها، فيحل الإفتاء بقول الإمام بل يجب وإن لم نعلم من أين قال وعلى هذا فما صححه في الحاوي مبني على ذلك الشرط، وقد صححوا أن الإفتاء بقول الإمام فينتج من هذا أنه يجب علينا الإفتاء بقول الإمام، وإن أفتى المشايخ بخلافه لأنهم إنما أفتوا بخلافه لفقد شرطه في حقهم وهو الوقوف على دليله، وأما نحن فلنا الإفتاء وإن لم نقف على دليله، وقد وقع للمحقق ابن الهمام في مواضع الرد على المشايخ في الإفتاء بقولهما بأنه لا يعدل عن قوله إلا لضعف دليله، وهو قوي في وقت العشاء لكونه الأحوط وفي تكبير التشريق في آخر وقته إلى آخرها. ذكره في فتح القدير لكن هو أهل للنظر في الدليل، ومن ليس بأهل للنظر فيه فعليه الإفتاء بقول الإمام، والمراد بالأهلية هنا أن يكون عارفا مميزا بين الأقاويل له قدرة على ترجيح بعضها على بعض ولا يصير الرجل أهلا للفتوى ما لم يصر صوابه أكثر من خطئه؛ لأن الصواب متى كثر فقد غلب ولا عبرة بالمغلوب بمقابلة الغالب فإن أمور الشرع مبنية على الأعم الأغلب كذا في الولوالجية من كتاب القضاء، وفي مناقب الكردري قال ابن المبارك وقد سئل متى يحل للرجل أن يفتي ويلي القضاء؟ قال: إذا كان بصيرا بالحديث والرأي عارفا بقول أبي حنيفة حافظا له، وهذا محمول على إحدى الروايتين عن أصحابنا، وقبل استقرار المذاهب أما بعد التقرر فلا حاجة إليه لأنه يمكنه التقليد ا هـ. ومن العجب ما سمعت من بعض حنفية عصرنا حين تكلمت قديما معه فيها إن قال لما أفتى المشايخ بشيء علمنا أنه قول الإمام فقلت إنه خطأ لأنهم يبينون قول الإمام في ظاهر الرواية، ثم يقولون الفتوى على قول أبي يوسف أو محمد أو زفر، وسمعت من بعضهم أنه يقول الكل عن أبي حنيفة قلت نعم لكن ما خرج عن ظاهر الرواية فهو مرجوع عنه لما قرروه في الأصول من عدم إمكان صدور قولين مختلفين متساويين من مجتهد، والمرجوع عنه لم يبق قولا له كما ذكروه. (قوله: وكره التقليد لمن خاف الحيف) كي لا يكون ذريعة إلى مباشرة الظلم، وهنا نسختان التقليد أي النصب من السلطان، والتقلد أي قبول تقليد القضاء وهي الأولى، والحيف بمعنى الجور والظلم من حاف عليه يحيف إذا جار وخوف عدم إقامة العدل لعجزه كخوف الجور فلو قال المؤلف لمن خاف الحيف أو العجز لكان أولى؛ لأن أحدهما يكفي نص عليه القدوري، والمراد بالكراهة كراهة التحريم؛ لأن الغالب الوقوع في محظوره حينئذ، ومحل الكراهة ما إذا لم يتعين عليه فإن انحصر صار فرض عين عليه وعليه ضبط نفسه إلا إن كان السلطان يمكن أن يفصل الخصومات، ويتفرغ لذلك كذا في فتح القدير وإذا لم يمكن السلطان فصل القضايا وفي البلد قوم صالحون له أثموا كلهم كذا في البزازية، ولم أر هل يفسق الممتنع الظاهر نعم لتركه الفرض إلا أن يقال إن للممتنع في الغالب تأويلا، وهو مانع من الفسق، ولم أر الآن هل يجبر الممتنع المنحصر فيه الظاهر جواز جبره على القبول لاضطرار الناس إليه كإطعام المضطر وسائر فروض الكفاية عند التعين، وكذا جواز جبر واحد من المتأهلين وغير المتأهل كالمعدوم. (قوله: وإن أمنه لا) أي إن أمن الحيف لم يكره التقليد؛ لأن كبار الصحابة والتابعين تقلدوه، ولم يتعرض المصنف لكون الدخول فيه عند الأمن رخصة فالأولى تركه أو عزيمة فالأولى الدخول فيه للاختلاف، قال في البزازية وعامة المشايخ على أن التقلد رخصة والترك عزيمة، وقد دخل في القضاء قوم صالحون وتحامى منه قوم صالحون وترك الدخول أصلح دينا ودنيا، وفي فتح القدير وإن أمن أبيح رخصة والترك هو العزيمة؛ لأنه وإن أمن فالغالب خطأ ظن من ظن من نفسه الاعتدال فيظهر منه خلافه ا هـ. فالحاصل أنه فرض عين إن تعين وفرض كفاية للمتأهل عند وجود غيره لكن رخصة ومكروه عند خوف العجز أو الحيف، وينبغي أن يكون حراما عند غالب ظنه أنه يجور في الحكم ومباح كما قدمناه ففيه الأحكام الخمسة أما غير الأهل فيحرم عليه الدخول فيه قطعا، ولم أر حكم ما إذا خاف الجور مع التعين ومقتضى كلامهم في النكاح أن لا يجوز له القبول تقديما للمحرم على المبيح، وإن كان فرضا وقد روي أن أبا حنيفة دعي للقضاء ثلاث مرات فأبى حتى حبس وجلد كل مرة ثلاثين سوطا حتى قال له أبو يوسف: لو تقلدت لمنفعة الناس. فنظر إليه شبه المغضب فقال: لو أمرت أن أقطع البحر سباحة لكنت أقدر عليه فكأني بك قاضيا، نكس رأسه ولم ينظر إليه بعد، هذا يدل على كراهة الدخول فيه وهو قول البعض، قدمنا أنه لا يكره للقادر عليه، وظاهر كلام الإمام أنه عرف من نفسه عدم القدرة، لذا لم يقبل، به صرح في فتح القدير أنه لا يجوز القبول إلا لمن أجبر عليه، ولذا ضرب الإمام أياما وقيد بضعا وخمسين، امتنع في الأصح من القبول، مات على الإباء كذا في البزازية، حاصل ما ذكره البزازي في مناقبه روايات الأولى أن الإمام لما أكرهه المنصور على القضاء وأبى حبسه وضربه ثلاثة أيام ومات في الحبس مبطونا. الثانية أنه حبس مرتين على القضاء والفتيا، ثم أخرج ولزم بيته ومنع من الجلوس للناس إلى أن مات. الثالثة أنهم لما عجزوا منه قتلوه بالسم. الرابعة أنه طيف به في الأسواق. الخامسة أنه لما أحس بالسم سجد فخرجت روحه ساجدا سنة خمسين ومائة، ومن غريب ما وقع أنه جيء بجنازته فازدحم الناس فلم يقدروا على دفنه إلا بعد العصر، واستمر الناس يصلون عليه على قبره عشرين يوما، وحزر من صلى عليه خمسون ألفا ثم قال والجمهور على أنه لم يقبل القضاء، وأنه مات بالسم، وقيل قبله يومين أو ثلاثة لأجل بر المنصور في يمينه ثم ترك. ثم اعلم أن واقعة المنصور معه هي الفتنة الثانية للإمام، والأولى أكرهه ابن هبيرة والي الكوفة على قضائها، وضربه به على رأسه حتى انتفخ وجهه وحبسه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بإطلاقه وتمامه فيها، ولم يذكر الشارحون المولى للقضاة، وظاهر كلامهم أنه الخليفة أو السلطان وعند الإمام الثاني الأمير الذي ولاه السلطان ناحية، وجعل له خراجها وأطلق له التصرف في الرعية وما تقتضيه الإمارة له أن يقلد ويعزل بخلاف ما إذا فوض إليه الأموال فقط، وعنه أيضا إذا كان القضاء من الأصل ومات القاضي ليس للأمير أن ينصب قاضيا، وإن ولي عشرها وخراجها وإن حكم الأمير لم يجز حكمه فإذا جاء هذا المولى بكتاب الخليفة إليه من الأصل لا يكون إمضاء لقضائه كذا في البزازية، وللسلطان أن يفوض التولية للقضاء إلى غيره، ولو كان المفوض إليه عبدا بطريق النيابة بخلاف ما إذا حكم العبد بنفسه لم يصح، ويشترط للسلطان المولي للقضاة البلوغ لما في البزازية مات السلطان واتفقت الرعية على سلطنة ابن صغير له ينبغي أن يفوض أمور التقليد إلى وال، ويعد هذا الوالي نفسه تبعا لابن السلطان لشرفه، والسلطان في الرسم هو الابن وفي الحقيقة هو الوالي لعدم صحة الإذن والجمعة لمن لا ولاية له ا هـ. وفيها أيضا السلطان أو الوالي إذا بلغ يحتاج إلى تقليد جديد، وكذا النصراني إذا استؤمر وفي العبد روايتان ولو اجتمع أهل بلدة على تولية واحد القضاء لم يصح بخلاف ما إذا ولوا سلطانا بعد موت سلطانهم فإنه يجوز منها أيضا، ولا بد في صحة التولية من تعيين القاضي فلو قال السلطان وليت عالما أو أحد هذين أو فلانا وفلانا لم يصح أخذا مما في البزازية، لو قال السلطان للوالي قلد من شئت يصح ولو قال قلد أحدا لم يصح كقوله لوكيله وكل من شئت يصح وكل أحد لا. ا هـ. والتولية للقاضي إما بالمشافهة للقاضي بقوله وليتك قضاء بلدة كذا أو جعلتك قاضي القضاة ونحو ذلك أو بإرسال ثقة إليه بذلك أو بكتاب، وفي البزازية كان الفقيه أبو جعفر يقول كان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول تولية القضاء في ديارنا غير صحيح؛ لأن المولي لا يواجههم بالتقليد، وإنما يكتب المنشور ويكتب في كل فصل عادة من تقدم إن شاء الله تعالى فيبطل المقدم ولو محاه بعده لا ينقلب صحيحا كما لو كتب أنت طالق إن شاء الله تعالى ثم محى المبطل لا يقع الطلاق ا هـ. ولا يشترط لصحة التولية قبوله لها، وإنما يشترط عدم رده بشرط بلوغه الرد كالوكالة لما في البزازية السلطان إذا قلده القضاء فرده مشافهة، ثم قيل لا يصح وإن بعث إليه منشورا أو أرسل إليه فرده، ثم قبل إن قبل قبل بلوغ الرد إلى السلطان يصح القبول لا بعد بلوغ الرد إليه، وكذا الوكيل برد الوكالة ثم يقبل وكذا إذا كتبت المرأة إلى رجل زوجت نفسي منك فبلغ الكتاب إليه فرده ثم قبل والرسالة كالكتابة. ا هـ. ولم أر لأصحابنا مجموعا ما يستفيده القاضي بالتولية، وقد جمعته من مواضعه فيملك الحكم الثابت ببينة أو إقرار أو نكول عن اليمين بعد استيفاء الشرائط الشرعية للحكم، ويملك حبس الممتنع عن أداء الحق ومن وجب عليه تعزير ورأى حبسه لقولهم: إنه مفوض إلى رأيه، ويملك إقامة التعازير ما كان حقا لله تعالى بلا طلب أحد وما كان حق عبد بطلبه، ويملك إقامة الحدود كما صرحوا به في بابها وفي تهذيب القلانسي أنها إلى الإمام، وأمراء الأمصار دون أمراء السواد وعمال الخراج في الرساتيق ا هـ. ويملك تزويج اليتامى والأيتام حيث لا ولي لهم لكن بشرط أن يكتب في منشوره ذلك، وظاهر كلامهم في باب الأولياء أنه لا يكفي في هذه توليته له قاضي القضاة ويملك الاستخلاف بالإذن الصريح أو بقوله جعلتك قاضي القضاة، وإلا فلا يملك ويملك ولاية أموال غير المكلفين ممن لا ولي له، وأما من له ولي فلا إلا أن يتصرف غير صالح فله نقضه أو كان مبذرا مسرفا فله منعه كما في بيوع الخانية، ويملك ولاية الوقوف ولو شرط الواقف أن لا ولاية له في وقفه فشرطه باطل كما قدمناه في الوقف، ويبحث عن ولاتها فيعزل الخائن عنها ولو كان ابن الواقف ويحاسبهم ويحلف من يتهمه منهم كما قدمناه في الوقف، وله نصب الأوصياء إن لم يكن للميت وصي وفي البزازية من التاسع في نصب الوصي من كتاب القضاء. قال الإمام الحلواني للقاضي أن ينصب الوصي في مواضع إذا كان في التركة دين مهرا كان الدين أو غيره بشرط امتناع الوارث الكبير من البيع للقضاء أو وصية أو صغيرة فينصبه القاضي لقضاء الدين أو لتنفيذ الوصية أو لحفظ مال الصغير، وكذا لو كان أبو الصغير مبذرا متلفا لمال الصغير ينصب وصيا لحفظ ماله، ولو اشترى الوارث من مورثه شيئا ثم اطلع بعد موته على عيب نصب القاضي وصيا حتى يرده الأب عليه، وقيد الخصاف نصب الوصي فيما إذا كان على الميت دين له وارث كبير غائبا بانقطاعه عن بلد المتوفى لا يأتي ولا تذهب القافلة، فإن لم يكن منقطعا لا ينصب، وكذا ينصب وصيا على الصغير عند غيبة أبيه، واحتيج إلى إثبات حق الصغير إن كانت غيبة الأب منقطعة وإلا فلا وينصب وصيا عن المفقود لحفظ حقوقه ولا ينصب عن الغائب ا هـ. فهذه سبعة مواضع يملك فيها نصب الوصي، ثم رأيت ثامنا قال في القنية إذا كان المدعى عليه أصم أعمى أخرس فالقاضي ينصب عنه وصيا، ويأمر المدعي بالخصومة معه إن لم يكن له أب أو جد أو وصيهما ا هـ. قال في البزازية بعدها، وإنما يلي النصب إذا كان مأذونا بالاستخلاف وينصب عدلا أمينا كافيا لا غريبا لا يعرف، ويثبت ذلك بإخبار عدل، ويشترط في نصب الوصي على اليتيم كونه في ولاية القاضي لا التركة، وفي الوقف كون المدعى عليه في ولايته هكذا اختاره القاضي، وفيه اختلاف ويملك البيع على المديون لإيفاء دينه على القول المفتى به كما صرحوا به في الحجر، وله ولاية إقراض اللقطة من الملتقط، وولاية إقراض مال الغائب وله بيع منقوله إذا خاف عليه التلف إذا لم يعلم مكان الغائب فإذا علم مكانه بعث إليه؛ لأنه يمكنه حفظ العين والمالية دل هذا على أنه يملك بعث مال الغائب إليه إذا خاف التلف وله نصب وكيل في جمع غلات المفقود طلب الوارث أو لا، له إيفاء ديون الغائب بماله بالحصص وبيع ماله لإيفاء دينه إذا كان دينه ثابتا عنده، وله الإرسال خلف من نسب إلى طلاق زوجته الثلاث إذا أخبره عدلان، وإن لم تطلبه المرأة الكل من البزازية من نوع في ولاية القاضي. قال: وليس له أن يزوج أم ولد الغائب وله الإذن بالإنفاق على مال الغائب وزوجته وأولاده وأصله من ماله كما قدمناه في النفقات، وله فرض النفقة على الزوج إذا لم يكن صاحب مائدة وطعام كثير وفي جامع الفصولين للقاضي إيداع مال الغائب وله الإذن في بيع شيء باعه مالكه لرجل وغاب المشتري ليأخذ ثمنه من ثمنه لو من جنسه، ولو كانت دابة فله الإذن بإجارتها وعلفها من أجرتها، وله الإذن ببيع الجارية المغصوبة لو كان مالكها غائبا ولو من الغاصب فيحل له وطؤها، وإن حضر مالكها كان له على ذي اليد ثمنها، ولا يملك تزويج أمة الغائب والمجنون وقنهما وله أن يكاتبهما ويبيعهما، وله أن يقبض دين غائب من محبوسه، وله أن يضعه عند عدل وله إطلاق محبوسه بكفيل بنفسه، وله الإذن ببيع وديعة خيف فسادها وربها غائب كصوف، وله بيع دار الميت إذا لم يعلم له وارث وإذا علم جاز أيضا حفظا، وله بيع الآبق وله إجارة بيع بيت المفقود لو خيف خرابه لو لم يسكن، وله قبض المغصوب الغائب من غاصبه، وله أخذ وديعة المفقود وإيداعها عند من يثق به ا هـ. ما في جامع الفصولين ملخصا، وأما إقامة الجمع والأعياد فيملكها القاضي إن كانت في منشوره، وإلا فلا وقول محمد للقاضي أن يجمع جملة المشايخ على هذا كذا في البزازية من أول القضاء، وله النظر في الطريق فيمنع متعديا فيها ببناء وإشراع جناح لا يجوز، وله نصب القسام كما ذكروه في كتاب القسمة، وله نصب أئمة المساجد، ولم أر حكم نصبه للمحتسبين، وينبغي أن يكون له ذلك إن لم ينصب الإمام أحدا، وأما نصب العاشر والجابي للزكوات فإلى الإمام كأخذ الجزية والخراج وما يتعلق بأموال بيت المال. قوله (ولا يسأل القضاء) لقوله عليه الصلاة والسلام: «من طلب القضاء وكل إلى نفسه ومن أجبر عليه نزل عليه ملك يسدده» أي يلهمه رشده ذكره الصدر الشهيد؛ ولأن من طلبه اعتمد على نفسه فيحرم ومن أجبر عليه توكل على ربه فيلهم، وعلله في السراج الوهاج بأخرى بأن في طلب القضاء إذلالا وإهانة بالعلم؛ لأن كل معرض مهان ا هـ. وهو يفيد منع العالم من السؤال مطلقا إلا لحاجة، وقد جمع القدوري بين النهي عن طلبه والنهي عن سؤاله ففهم الشارحون المغايرة بينهما فقيل الطلب بالقلب والسؤال باللسان كذا في المستصفى وفي الينابيع الطلب أن يقول للإمام ولني، والسؤال أن يقول للناس لو ولاني الإمام قضاء بلدة كذا لأجبته إلى ذلك، وهو يطمع أن يبلغ ذلك إلى الإمام ا هـ. والمراد كراهة السؤال أي تحريما أي لا يحل كما في فتح القدير، وليس النهي عن السؤال على إطلاقه بل مقيد بأن لا يتعين للقضاء أما إن تعين بأن لم يكن أحد غيره يصلح للقضاء وجب عليه الطلب صيانة لحقوق المسلمين ودفعا لظلم الظالمين، واستحب بعض الشافعية طلبه لحامل الذكر لينشر العلم كما في المعراج، ولم أر حكم ما إذا تعين، ولم يول إلا بمال هل يحل بذله، وكذا لم أر حكم جواز عزله وينبغي أن يحل بذله للمال كما حل طلبه، وأن يحرم عزله حيث تعين، وأن لا يصح عزله وكما لا يجوز طلبه لا تجوز تولية الطالب في الخلاصة والبزازية والخانية من الوقف طالب التولية لا يولى ا هـ. فمن طلب القضاء أو النظارة أو الوصاية لا يولى، وعللوه بأن الطالب موكول إلى نفسه وهو عاجز فيكون سببا لتضييع الحقوق وفي وصايا البزازية. قال أبو مطيع البلخي أفتي منذ نيف وعشرين سنة فما رأيت قيما عدل في مال ابن أخيه قط، فلا ينبغي أن يتقلد الوصاية أحد، وقد قيل اتقوا الواوات الوكالة والوصاية والولاية ا هـ. وظاهر كلامهم أنه لا تطلب التولية على الوقف، ولو كانت بشرط الواقف له لإطلاقهم، وقدمنا في كتاب الوقف أن له طلب عودها إذا عزل من قاض جديد. (قوله: ويجوز تقليد القضاء من السلطان العادل والجائر ومن أهل البغي)؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقلدوه من معاوية، والحق كان بيد علي رضي الله تعالى عنهما في نوبته والتابعين تقلدوه من الحجاج وكان جائرا أفسق أهل زمانه هكذا قال أصحابنا وفي فتح القدير، وهذا تصريح بجور معاوية، والمراد في خروجه لا في أقضيته، ثم إنما يتم إذا ثبت أنه ولي القضاة قبل تسليم الحسن رضي الله عنه له، وأما بعد تسليمه فلا، ويسمى ذلك العام عام الجماعة ا هـ. ومن العلماء من قال: إن الحسن رضي الله عنه لم يسلم له اختيارا، وإنما سلم له لما رأى ما يقع بينهما من قتل المسلمين من كل من الطائفتين فكان مضطرا كما في المسايرة وفي المعراج انعقد الإجماع على بيعة معاوية حين سلم له الحسن، وما ذكر المؤلف من جواز التقليد من الجائر مقيد بما إذا كان يمكنه من القضاء بالحق. أما إذا لم يمكنه فلا كما في الهداية؛ لأن المقصود لا يحصل به، والعادل هو الواضع كل شيء في موضعه، وقيل هو المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط سواء كان في العقائد أو في الأعمال أو في الأخلاق، وقيل الجامع بين أمهات كمالات الإنسان الثلاثة، وهي الحكمة والشجاعة والعفة التي هي أوساط القوى الثلاث أعني القوة العقلية والغضبية والشهوانية وقيل المطيع لأحكام الله تعالى وقيل المراعي لحقوق الرعية ذكره الكرماني في شرح قوله عليه الصلاة والسلام إمام عادل، والعدل في اللغة القصد في الأمور وهو خلاف الجور، وذكر الصدر الشهيد في شرح أدب القضاء للخصاف أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن العدل وهو على المنبر فقال على البديهة العدل أن تأتي إلى أخيكا ما مثله أن يرضيكا وأطلق في الجائر فشمل المسلم والكافر كما ذكره مسكين معزيا إلى الأصل، وظاهره صحة سلطنة الكافر على المسلمين وصحة توليته للقضاة وفي فتح القدير ما يخالفه، قال وإذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقليد منه كما هو في بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار في بلاد المغرب كقرطبة الآن وبلنسية وبلاد الحبشة، وأقروا المسلمين عندهم على مال يؤخذ منهم يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه واليا فيولى قاضيا ويكون هو الذي يقضي بينهم، وكذا ينصبون إماما يصلي بهم الجمعة. ا هـ. ويؤيده ما في جامع الفصولين، وكل مصر فيه وال مسلم من جهة الكفار يجوز من إقامة الجمع والأعياد وأخذ الخراج وتقليد القضاء وتزويج الأيامى لاستيلاء المسلم عليهم، وأما طاعة الكفرة فهي موادعة ومخادعة، وأما في بلاد عليها ولاة الكفار فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد، ويصير القاضي قاضيا بتراضي المسلمين، ويجب عليهم طلب وال مسلم ا هـ. وتصريحه بجواز التقلد من الجائر يدل على أن البغاة إذا ولوا قاضيا، ثم جاء أهل العدل فرفعت قضاياه إلى قاضي أهل العدل فإنه يمضي حيث كان موافقا أو مختلفا فيه كما في سائر القضاة، وهو مصرح به في فصول العمادي ويدل بمفهومه على أن القاضي لو كان من البغاة فإن قضاياه تنفذ كسائر فساق أهل العدل؛ لأن الفاسق يصلح قاضيا في الأصح، وذكر في الفصول ثلاثة أقوال فيه الأول ما ذكرناه، وهو المعتمد الثاني عدم النفاذ فإذا رفع إلى العادل لا يمضيه الثالث حكمه حكم المحكم يمضيه لو وافق رأيه وإلا أبطله. ا هـ. وأشار المؤلف بصحة التقليد من الجائر عادلا كان القاضي أو باغيا إلى صحة عزل الباغي لقضاة أهل العدل وفي الفصول بمجرد استيلاء الباغي لا تنعزل قضاة العدل، ويصح عزل الباغي لهم حتى لو انهزم الباغي بعده لا تنفذ قضاياهم بعده ما لم يقلدهم سلطان العدل ثانيا إذ الباغي صار سلطانا بالقهر والغلبة ا هـ. وفي شرح باكير فيما يصح تعليقه وما لا يصح قبيل الصرف. اعلم أنه لا بد أن يكون الإمام مكلفا حرا مسلما عدلا مجتهدا ذا رأي وكفاية سميعا بصيرا ناطقا، وأن يكون من قريش وللإمام فيه منع، وإن لم يوجد فمن العجم، وتنعقد بيعة أهل الحل والعقد من العلماء المجتهدين والرؤساء لما عرف ا هـ. وتكفي مبايعة واحد وقيل لا بد من الأكثر، وقيل لا يلزمه عدد وتمامه في المسايرة وعرف المحقق الإمامة العظمى في المسايرة بأنها استحقاق تصرف عام في الدين والدنيا على المسلمين، وظاهره أنه لا بد في الإمام من عموم ولايته ولذا قالوا: لا يجوز اجتماع إمامين في زمن واحد وقدمنا أولا عن الخانية بماذا يكون سلطانا. (قوله: فإن تقلد يسأل ديوان قاض قبله) شروع فيما يفعله القاضي إذا تقلده فإن كان في البلد ينبغي أن يقرأ المنشور على أهل البلد إن كتب له، وإن قدم من خارج ينبغي أن يقدم يوم الاثنين أو الخميس لابسا عمامة سوداء، وينزل وسط البلد ويقرأ عليهم منشوره ولم أره صريحا الآن ثم رأيته في شرح أدب القضاء للخصاف، ثم يطلب ديوان القاضي السابق؛ لأنه إنما وضع للحاجة فيجعل في يد من له ولاية القضاء؛ لأن القاضي يكتب نسختين إحداهما في يده لاحتمال الحاجة إليها والأخرى في يد الخصم وما في يده لا يؤمن عليه، والديوان لغة جريدة الحساب ثم أطلق على الحاسب، ثم أطلق على موضع الحاسب وهو معرب، والأصل دوان فأبدلت من إحدى المضعفين ياء بالتخفيف ولهذا يرد في الجمع إلى أصله فيقال دواوين وفي التصغير دويوين؛ لأن التصغير وجمع التكسير يردان الأسماء إلى أصولها، ودونت الديوان أي وضعته وجمعته، ويقال إن عمر رضي الله تعالى عنه أول من دون الدواوين في العرب أي رتب الجرائد للعمال وغيرها كذا في المصباح والمراد به هنا ما ذكره بقوله: (وهو الخرائط التي فيها السجلات والمحاضر وغيرها) أي الديوان والخرائط جمع خريطة مثل كريمة وكرائم، وهي شبه كيس يشرج من أديم وخرق كذا في المصباح، وهذا مجاز؛ لأن الديوان نفس السجلات والمحاضر لا الكيس كما أفاده مسكين، والسجلات جمع سجل وهو لغة كتاب القاضي والمحاضر جمع محضر، وذكر العلامة خسرو في شرح الدرر والغرر أن المحضر ما كتب فيه خصومة المتخاصمين عند القاضي وما جرى بينهما من الإقرار من المدعى عليه أو الإنكار فيه، والحكم بالبينة أو النكول على وجه يرفع الاشتباه، وكذا السجل والصك ما كتب فيه البيع والرهن والإقرار وغيرها والحجة والوثيقة متناولان الثلاثة ا هـ. وفي العرف الآن السجل ما كتبه الشاهدان في الواقعة، وبقي عند القاضي وليس عليه خط القاضي والحجة ما نقل من السجل من الواقعة وعليه علامة القاضي أعلاه وخط الشاهدين أسفله وأعطي للخصم، وفي قوله إن دون إذا إشارة إلى أن تقلده نادر غير كائن لا يتقلده إلا مغرور بحديث النفس إليه، أشار مسكين وأراد بغيرها محاسبات الأوقاف وكل شيء كان فيه مصالح الناس مما يتعلق بالقاضي المعزول وأطلقه فشمل ما إذا كان الورق من بيت المال أو من مال أرباب القضايا، وهو الصحيح وما إذا كان من مال القاضي في الصحيح؛ لأنه أخذه تدينا لحفظ أمور المسلمين لا تمولا، ويبعث المولى اثنين أو واحدا مأمونا ليقبضاها من المعزول أو أمينه ويسألان منه شيئا فشيئا، ويجعلان كل نوع في خريطة ليكون أسهل للتناول، وهذا السؤال لكشف الحال لا للزوم العمل بمقتضى الجواب من القاضي فإنه التحق بسائر الرعايا بالعزل، ثم إذا قبضاه ختما عليه خوفا من التغيير، وأما ما قيل يكتبان عدد ضياع الوقوف ومواضعها فلا حاجة إليه فإن كتب الأوقاف تغني عنه، وأشار إلى أن المولى بمجرد توليته لا يتأخر عن النظر فيما فوض له فإن تأخر لغير عذر عزله الإمام، ولذا قال الصدر الشهيد إن عمر رضي الله عنه استقضى رجلا على الشام يقال له حابس بن سعد الطائي على قضاء حمص قال له يا حابس كيف تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال فإن لم يكن في كتاب الله تعالى قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم يكن في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال أجتهد برأيي وأستشير جلسائي فقال عمر رضي الله عنه أصبت وأحسنت ثم لقي عمر ذلك الرجل فقال ما منعك أن تسير إلى عملك قال يا أمير المؤمنين إني رأيت رؤيا هالتني أي خوفتني قال: وما هي؟ قال رأيت كأن الشمس والقمر يقتتلان رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق في جمع كثير، ورأيت كأن القمر أقبل من المغرب في جمع كثير حتى اقتتلا قال فمع أيهما كنت قال مع القمر فقرأ عمر رضي الله عنه: «وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} كنت مع القمر في مغرب الشمس اردد إلينا عهدنا فقتل بعد بصفين مع معاوية، فيدل على أن للإمام عزل القاضي إذا تأخر وعلى التفاؤل وتمامه في شرح أدب القضاء للخصاف. قوله (ونظر في حال المحبوسين) أي الجديد؛ لأنه نصب ناظرا للمسلمين، والمراد المحبوس في سجن القاضي فيبعث القاضي ثقة يحصيهم في السجن، ويكتب أسماءهم وأخبارهم وسبب حبسهم ومن حبسهم، وفي شرح أدب القضاء يجب على القاضي كتابة اسم المحبوس وأبيه وجده وما حبس بسببه وتاريخه فإذا عزل بعث النسخة التي فيها أسماؤهم إلى المتولي لينظر فيها، وأما المحبوس في سجن الوالي فيجب على الإمام النظر في أحوالهم، وحاصل ما ذكره الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج أن من حبس من أهل الدعارة والتلصص والجنايات ولا مال لهم أن نفقتهم في بيت المال وكسوتهم، وكذا أسراء المشركين وأن لا يبيت أحد في قيد إلا رجل مطلوب بدم، وينبغي أن يولي على هذا الأمر رجلا صالحا يثبت أسماءهم عنده ويدفع نفقتهم وأدمهم شهرا بشهر، ويدعو كل رجل ويدفع إليه بيده ويعفيهم عن الخروج في السلاسل يتصدق عليهم فإن هذا شيء عظيم ومن مات منهم ولا ولي له ولا قرابة فإن تجهيزه من بيت المال، وأمر بالصلاة عليه، ونظر في أحوالهم كل أيام فمن كان عليه أدب أدب وأطلق ومن لم يكن له قضية خلى سبيله إلى آخر ما ذكره رحمه الله. قوله (فمن أقر بحق أو قامت عليه بينة ألزمه)؛ لأن كلا منهما حجة ملزمة، وليس المراد بقوله ألزمه الحكم عليه، وإنما المراد ألزمه الحبس كما أشار إليه مسكين أي أدام حبسه، ويصح أن يراد ألزمه بالحق وإليه يشير تقريره في فتح القدير، والظاهر عندي ما قاله مسكين لأن الثاني لا يطرد في كل إقرار؛ لأن المحبوس إذا أقر بسبب عقوبة خالصة كالزنا وشرب الخمر فقال: إني أقررت عند القاضي المعزول أربع مرات في الزنا، ولم يقم الحد علي فإن القاضي لا يقيمه عليه؛ لأن ما كان منه في مجلس المعزول بطل لكن يستقبل المولى الأمر فإذا أقر حده ثم بعد الحد يتأنى وينادي عليه، ثم يطلقه بكفيل بنفسه كذا في شرح أدب القضاء للخصاف، وقوله أو قامت عليه بينة أعم من أن تشهد بأصل الحق أو بحكم القاضي عليه، وأما المعزول فلا يقبل قوله لو قال حبسته بحق عليه، كذا لو قال كنت حكمت عليه لفلان بكذا كما في السراج الوهاج وعلله في البداية بأنه كواحد من الرعايا وشهادة الفرد غير مقبولة لا سيما إذا كانت على فعل ا هـ. فظاهره أنه لو شهد مع آخر لم تقبل شهادته، رأيت في بعض كتب الشافعية أنه لو شهد مع آخر على حكمه لم تقبل إلا أن يقول إن قاضيا قضى عليه بكذا لفلان ا هـ. وقواعدنا تأباه؛ لأن الشهادة على قضاء القاضي من غير تسميته غير صحيحة ولم يذكر المؤلف رحمه الله إطلاقه بعد إلزامه لما في شرح أدب القضاء أنه إذا أقر لفلان بن فلان وعرفه القاضي أو شهد الشهود بنسبه، وأحضر المال له أطلقه بلا كفيل، وكذا إذا اختار المدعي إطلاقه وإن أشكل على القاضي أمر المدعي أمره بالدفع إليه ولا يطلقه بل يتأنى، ثم يطلقه بكفيل خوفا من الاحتيال ا هـ. قوله (وإلا نادى عليه) أي من لم يثبت عليه شيء أمر مناديا كل يوم في محلته وقت جلوسه من كان يطلب فلان بن فلان المحبوس بحق فليحضر حتى نجمع بينه وبينه فإن حضر واحد وادعى وهو على إنكاره ابتدأ الحكم بينهما، وإلا تأنى في ذلك أياما على حسب ما يرى القاضي فإن لم يحضر أحد أخذ منه كفيلا بنفسه على الصحيح اتفاقا، وأطلقه بخلاف مسألة القسمة فإن أبا حنيفة لم يأخذ من الورثة كفيلا؛ لأن احتمال وارث آخر موهوم وهنا القاضي لا يحبسه إلا بحق ظاهر وخلافه موهوم فإن قال لا كفيل لي وأبى أن يعطي كفيلا وجب أن يحتاط نوعا آخر من الاحتياط فينادي شهرا فإن لم يحضر أحد أطلقه، وقد بحث المحقق في فتح القدير بأنه لو قيل بالنظر إلى أن الظاهر أنه حبس بحق يجب أن لا يطلقه بقوله إني مظلوم حتى تمضي مدة يطلق فيها مدعي الإعسار كان جيدا ا هـ. قلت: ليس بجيد لأنا عملنا بمقتضى هذا الظاهر بالنداء، وأخذ الكفيل ولو أبقيناه في الحبس كما ذكره لسوينا بين المحقق والظاهر فإن المعسر تحققنا ثبوت الحق عليه بخلاف المحبوس بعد عزل القاضي، ثم اعلم أن حاصل ما ذكره الصدر في المحبوسين أنه إن كان بسبب الدين فقد ذكرناه، وإن كان بسبب قصاص أقر به اقتص منه للمقر له في النفس والطرف، ولكن لا يطلقه في الطرف إلا بكفيل احتياطا وإن كان قال حبست بسبب حد الزنا لا يعمل القاضي بإقراره السابق، وإنما يستأنف الآن وإن قال بسبب شهود علي به لا يحده بذلك وإن قال بسبب سرقة أقررت بها قطع المولى يده وأطلقه بكفيل وإن قال ببينة لا للتقادم، وإن أقر أنه حبس بسبب حد الخمر لا يحده سواء قال بإقرار أو ببينة وإن قال بسبب قذف لفلان، وصدقه حد مطلقا وأطلقه بكفيل. قوله (وعمل في الودائع وغلات الوقف ببينة أو إقرار)؛ لأن كلا منهما حجة والمراد إقرار ذي اليد، وأما غيره فلا يقبل إقراره وفي فتح القدير والذي في ديارنا من هذا أن أموال الأوقاف تحت أيدي جماعة يوليهم القاضي النظر أو المباشرة فيها، وودائع اليتامى تحت يد الذي يسمى أمين الحكم ا هـ. وقد انقطع هذا في زماننا فإن أموال اليتامى تحت يد الأوصياء، ولم يول في زماننا أمين الحكم قيد بغلات الوقف؛ لأنه لا يعمل بإقرار ذي اليد في أصل الوقف إذا جحده الورثة ولا بينة، وقال المعزول إن هذا وقف فلان بن فلان سلمته إلى هذا، وأقر ذو اليد وكذبه الورثة لم يقبل قول القاضي وذو اليد، ويكون ميراثا بين الورثة، وتمامه في شرح أدب القضاء. (قوله: ولم يعمل بقول المعزول إلا أن يقر ذو اليد أنه سلمه إليه فيقبل قوله فيهما) يعني لو قال من في يده المال لي، وقال المعزول إنه مال وقف أو يتيم لم يقبل قوله لما بينا أنه التحق بواحد من الرعايا بخلاف القاضي؛ لأنه هو المخصوص بأن يكتفي بقوله في الإلزام حتى الخليفة الذي قلد القضاء لو أخبر القاضي أنه شهد عنده الشهود بكذا لا يقضى به حتى يشهد عنده الخليفة مع آخر، والواحد لا يقبل قوله. والحاصل أن المسألة على وجوه خمسة الأول أن يقر بأنه سلمها إليه ومع ذلك يقر بها لغيره فإذا بدأ ذو اليد بالإقرار للغير ثم بتسليم القاضي فأقر القاضي بأنها الآخر وحكمه أن تسلم العين للمقر له الأول، ويضمن المقر قيمته إن كان قيميا أو مثله إن مثليا للقاضي بإقراره الثاني فيسلمها لمن أقر له القاضي الثاني أن ينكر التسليم، وحكمه أن لا يقبل قول المعزول. الثالث أن يقر بأن المعزول سلمه إليه ثم يقر به للغير عكس الأول، وحكمه عدم قبول الثاني. الرابع أن يبدأ بالإقرار بتسليم القاضي ثم يقول لا أدري لمن هو، وحكمه قبول قول القاضي. الخامس أن يقر بأنه تسلمه من القاضي وصدق القاضي أنها لفلان فيقبل قولهما، ويدفع إلى القاضي ليدفعه إلى فلان فلم يعمل بقوله في وجه وعمل به في الأربعة، وقوله ببينة شامل لما إذا شهدوا أنهم سمعوا القاضي قبل عزله يقول هذا المال لفلان اليتيم استودعته فلانا، وكذا إذا شهدوا على بيعه مال اليتيم فإنه يقبل، ويؤخذ المال لمن ذكره، وكذا لو مات الأول واستقضى غيره فشهد بذلك. قوله (ويقضي في المسجد أو داره)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم: «حكم بين المتلاعنين في المسجد» «وقال للمديون قم فاقضه بعد أمر الدائن بوضع الشطر، وكانا في المسجد وقد ارتفعت أصواتهما» «وأمر بإقامة الحد وهو في المسجد»، وقد لاعن عمر رضي الله عنه عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري، وأما كون المشرك يدخله للقضاء وهو نجس فلا يمنع؛ لأن نجاسته نجاسة الاعتقاد على معنى التشبيه، وأما الحائض فتخبر بحالها ليخرج إليها القاضي أو يرسل نائبه كما إذا كانت الدعوى في دابة، وكذا السلطان يجلس في المسجد للحكم أطلق المسجد فشمل غير الجامع لكنه أولى؛ لأنه أشهر ثم الذي تقام فيه الجماعات وإن لم تصل فيه الجمعة. قال فخر الإسلام هذا إذا كان الجامع في وسط البلد أما إذا كان في طرف منها فلا لزيادة المشقة فالأولى أن يختار مسجدا في وسط البلد وفي السوق، ويجوز أن يحكم في بيته وحيث كان إلا أن الأولى ما ذكرناه، ويأذن للناس على العموم ولا يمنع أحدا؛ لأن لكل أحد حقا في مجلسه، والأولى أن يكون بيته في وسط البلد لما ذكرناه. والحاصل أنه يجلس له في أشهر الأماكن ومجامع الناس، وليس فيه حاجب ولا بواب، وهو الأفضل ولا يحكم، وهو ماش ولا راكب ولا بأس بالعقود على الطريق إذا كان لا يضيق على المارة ولا بأس بالحكم وهو متكئ والقضاء وهو مستو أفضل تعظيما لأمر القضاء، ولا يجلس وحده؛ لأنه يورث التهمة فينبغي أن يجالسه من كان يجلس معه قبل ذلك، وروي أن عثمان رضي الله عنه ما كان يحكم حتى يحضر أربعة من الصحابة ويستحب أن يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء ويشاورهم. وكان أبو بكر يحضر عمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم حتى قال أحمد يحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب ويشاورهم فيما يشكل عليه وفي المبسوط وإن دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله عن شيء من أمور المسلمين جلس وحده فإن طباع الناس تختلف فمنهم من يمنعه من حشمة الفقهاء عن فصل القضاء، ومنهم من يزداد قوة على ذلك فإن كان ممن يدخله حصر جلس وحده وفي المبسوط ما حاصله أنه ينبغي للقاضي أن يعتذر للمقضي عليه ويبين له وجه قضائه، ويبين له أنه فهم حجته ولكن الحكم في الشرع كذا يقتضي القضاء عليه فلم يمكن غيره ليكون ذلك أدفع لشكايته للناس ونسبته إلى أنه جار عليه، ومن يسمع يخل فربما تفسد العامة عرضه وهو بريء وإذا أمكن إقامة الحق مع عدم إيغار الصدور كان أولى كذا في فتح القدير وفي التتارخانية قال مشايخنا ينبغي للقاضي إذا أراد الحكم أن يقول للخصمين أحكم بينكما، وهذا على وجه الاحتياط حتى إنه إذا كان في التقليد خلل يصير حكما بتحكيمهما وفي البزازية قضى القاضي بحق ثم أمره أن يسأل القضية ثانيا بمحضر من العلماء لا يفرض ذلك على القاضي ا هـ. وفيها وإن رأى أن يقعد معه أهل الفقه قعدوا ولا يشاورهم عند الخصوم ا هـ. فعلى هذا إذا كانت عنده الفقهاء ووقعت الحادثة يخرج الخصوم أو يبعدهم ثم يشاور الفقهاء، ولا يسلم ولا يسلم عليه إلا إذا كان الداخل الشاهد فله أن يسلم كما في الخانية ويصلي ركعتين تحية المسجد، ويسند ظهره إلى المحراب، والناس بين يديه يقفون مستقبلي القبلة فإن اعتراه هم أو غضب أو جوع أو حاجة حيوانية كف عنه حتى يزول ولا يتعب نفسه في طول الجلوس ولا يقضي وهو يدافع أحد الأخبثين، وإن كان شابا قضى وطره من أهله ثم جلس للقضاء ولا يسمع من رجل حجتين أو أكثر في مجلس إلا أن يكون الناس قليلا، ولا يقدم رجلا جاء غيره قبله ولا يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا كذا في البزازية. والحاصل لا يقضي حال شغل قلبه ولو بفرح أو برد شديد أو حر شديد وأصله «لا يقضي القاضي وهو غضبان» معلول به، ولا ينبغي أن يتطوع بالصوم في اليوم الذي يريد الجلوس فيه كذا في فتح القدير وفي الظهيرية، ويخرج في أحسن ثيابه وأعدل أحواله وله أن يتخذ بوابا ليمنع الخصوم من الازدحام ولا يباح للبواب أن يأخذ شيئا على الإذن في الدخول وإذا أخذ البواب شيئا وعلم القاضي به فقضى كان كالقضاء بالرشوة لا ينفذ كذا في شرح أدب القضاء، وإذا جلسوا بين يديه قال أبو يوسف يقول أيكما المدعي فإذا عرفه يقول له ماذا تدعي وقال محمد لا يفعل ذلك، وقول أبي يوسف أرفق دفعا للمهابة عنهم، وإذا جاء رجل أراد إحضار خصمه الغائب دفع له طينة عليها ختم القاضي مكتوب فيها أجب خصمك إلى مجلس الحكم فإن كان في المصر أحضره أو قريبا منه، وإن كان بعيدا فالقاضي لا يعديه بمجرد قوله حتى يقيم البينة. والفاصل بينهما أنه إن أمكنه أن يعود إلى أهله في ذلك اليوم فهو قريب، وإلا فلا وقال محمد يجب على الإمام أن ينصب قضاة على الكور فيما دون مدة السفر احترازا عن مشقة الأعداء، وهو إزالة العدوان ويسقط الأعداء بعذر المرض أو كانت مخدرة فإن توارى الخصم في بيته ختم القاضي على بيته، وجعل بيته عليه سجنا وسد أعلاه وأسفله حتى يضيق عليه الأمر فيخرج قال الحلواني وأصحابنا لم يجوزوا الهجوم وصورته أن يبعث القاضي نساء يطلبنه في البيت وأعوانا يأخذون السفل والعلو كي لا يهرب وهذا هو القياس فعله عمر رضي الله عنه والصالحون من بعده وتركوا فيه القياس فإن كان المديون يسكن دارا بأجرة، وامتنع من الحضور اختلفوا في تسمير الباب، والأصح أنه يسمر والتسمير الضرب بالمسامير ا هـ. فإن كانت الدار مشتركة فسمرها الحاكم لأجل أحد الشركاء للباقي أن يرفعوا الأمر إليه ليرفع المسامير، وليس هذا من العدل كذا في التتارخانية وفيها للسلطان الختم على باب المديون، وإن لم يتوار في بيته تضييقا عليه حتى يقضي الدين. ا هـ. فعلى هذا له وضعه في الجاويش في زماننا، وفي البزازية ويستعين بأعوان الوالي على الإحضار وأجرة الأشخاص في بيت المال وقيل على المتمرد في المصر من نصف درهم إلى درهم وفي الخارج لكل فرسخ ثلاثة دراهم أو أربعة وأجرة الموكل على المدعي، وهو الأصح وفي الذخيرة أنه المشخص وهو المأمور بملازمة المدعى عليه، وأطلق بعض المشايخ الذهاب إلى باب السلطان والاستعانة بأعوانه أولا لاستيفاء حقه قبل العجز عن الاستيفاء بالقاضي لكنه لا يفتى به إلا إذا عجز القاضي، وإذا ثبت تمرده عن الحضور عاقبه بقدره، وذكر الصدر الشهيد الاختلاف في قبول القاضي القصاص من الخصوم، والمذهب عندنا أنه لا يأخذها إذا جلس للقضاء، وإلا أخذها ثم ذكر الاختلاف في أن القاضي يؤاخذ بما كتب فيها، والمذهب لا إلا إذا أقر بلفظه صريحا وفي السراج الوهاج وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا صالحا عفيفا ويقعده بحيث يراه أهلا للشهادة لا ذميا ولا عبدا ولا صبيا ولا ممن لا تجوز شهادته فيكتب الخصومة ويجعلها في قمطره، ويجعل لكل شهر قمطرا. (قوله: ويرد هدية إلا من قريب أو ممن جرت عادته به) أي لا يقبل القاضي هدية لما رواه البخاري عن أبي حميد الساعدي قال «استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة واسمه عبد الله فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال عليه الصلاة والسلام هلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا» قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كانت الهدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية واليوم رشوة فتعليله دليل على تحريم الهدية التي سببها الولاية، ويجب ردها على صاحبها فإن تعذر ردها على مالكها وضعها في بيت المال كاللقطة كما في فتح القدير فإن كان المهدي يتأذى بالرد يقبلها ويعطيه مثل قيمتها كذا في الخلاصة وفي المضمرات إذا دخلت الهدية له من الباب خرجت الأمانة من الكوة وقدمنا عن الأقطع الفرق بين الهدية والرشوة أن الرشوة ما كان معها شرط الإعانة بخلاف الهدية وفي خزانة المفتين مال يعطيه ولا يكون معها شرط والرشوة مال يعطيه بشرط أن يعينه. وذكر الهدية في الكتاب ليس احترازيا إذ يحرم عليه الاستقراض والاستعارة ممن يحرم عليه قبول هديته كما في الخانية، وإنما يقبل هدية القريب لما فيها من صلة الرحم وردها قطيعة وهي حرام وأطلقه وهو مقيد بالمحرم فخرج ابن العم مثلا ومقيد بأن لا تكون له خصومة، وإنما يقبل ممن له عادة للعلم بأنها ليست للقضاء وله شرطان أن لا يكون له خصومة وأن لا يزيد على العادة فيرد الكل في الأول، وما زاد عليها في الثاني وقيده فخر الإسلام بأن لا يكون مال المهدي قد زاد فبقدر ما زاد ماله لا بأس بقبوله، وظاهر العطف في كلام المصنف يقتضي أنه يقبل من القريب وإن لم تكن له عادة بالإهداء وفي كلام بعضهم ما يقتضي أنه كالأجنبي لا بد أن يكون له عادة وإلا فلا يقبلها منه إلا أن يكون لفقره ثم أيسر؛ لأن الظاهر أن المانع ما كان إلا الفقر على وزان ما قاله فخر الإسلام في الزيادة. والحاصل أن من له خصومة لا يقبلها مطلقا ومن لا خصومة له فإن كان له عادة قبل القضاء قبل المعتاد وإلا فلا وفي تهذيب القلانسي ولا يقبل هدية إلا من ذي رحم محرم أو من وال تولى الأمر منه أو وال مقدم الولاية على القضاء ا هـ. فعلى هذا له أن يقبلها من السلطان ومن حاكم بلده المسمى الآن بالباشاه واقتصر في التتارخانية على من ولاه وفي فتح القدير وكل من عمل للمسلمين عملا حكمه في الهدية حكم القاضي ا هـ. فظاهره أنه يحرم قبولها على الوالي والمفتي، وليس كما قال فقد قال في الخانية ويجوز للإمام والمفتي قبول الهدية وإجابة الدعوة الخاصة؛ لأن ذلك من حقوق المسلم على المسلم، وإنما يمنع عنه القاضي ا هـ. إلا أن يراد بالإمام إمام الجامع وفي التتارخانية من خصوصياته عليه الصلاة والسلام أن هداياه له وفيها ضم الواعظ إلى المفتي معللا بأنه إنما يهدى إلى العالم لعلمه بخلاف القاضي، وأشار المصنف إلى أن القاضي لا يبيع ولا يشتري في مجلس القضاء وغيره، وهو الصحيح لأن الناس يساهلونه لأجل القضاء كذا في الخانية هذا إذا كان يكفي المؤنة من بيت المال أو يعامل من يحابيه وإلا لا يكره، ولو باع مال المديون أو الميت لا يكره كذا في البزازية وفي فتح القدير ويجب أن يكون هدية المستقرض للمقرض كالهدية للقاضي إن كان المستقرض له عادة قبل استقراضه فأهدى إلى المقرض فللمقرض أن يقبل منه قدر ما كان يهديه بلا زيادة ا هـ. وهو سهو والمنقول كما قدمناه آخر الحوالة أنه يحل حيث لم يكن مشروطا مطلقا. قوله (ودعوة خاصة) أي يردها فلا يحضرها؛ لأنها جعلت لأجله أطلقه فشمل ما إذا كان الداعي لها القريب، وذكر الطحاوي أن هذا قولهما، وقال محمد يجيبها، وذكر الخصاف أنه يجيبها بلا خلاف واختاره المؤلف في الكافي، وإنما ترك التقييد به في المختصر اعتمادا على ما استثناه في الهدية فالأحسن أن يقال ولا يقبل هدية ودعوى خاصة إلا من محرم أو ممن له عادة فإن للقاضي أن يجيب الدعوة الخاصة من أجنبي له عادة باتخاذها كالهدية فلو كان من عادته الدعوة له كل شهر مرة فدعاه كل أسبوع بعد القضاء لا يجيبه، ولو اتخذ له طعاما أكثر من الأول لا يجيبه إلا أن يكون ماله قد زاد كذا في التتارخانية قيد بالخاصة احترازا عن العامة فإن له أن يحضرها بشرط أن لا يكون لصاحبها خصومة، واختلف في الخاصة والعامة فقيل ما دون العشرة خاصة والعشرة وما فوقها عامة، واختار في الهداية أن الخاصة هي ما لو علم صاحبها أن القاضي لا يحضرها لا يتخذها، والعامة هي التي يتخذها وإن لم يحضرها وحكي عن أبي علي النسفي أن العامة دعوة العرس والختان وما سواهما خاصة وفي فتح القدير عندي أنه حسن؛ لأن الغالب أن العامة هاتان، وربما مضى عمر ولم نعرف من اصطنع طعاما عاما ابتداء لعامة الناس بل ليس إلا هاتين الخصلتين أو بخصوص من الناس أو لكونه أضبط فإن معرفة كون الرجل لو لم يحضر القاضي لم يصنع أو يصنع غير محقق فإنه أمر مبطن، وإن كان عليه لوائح ليس كضبط هذا وتكفي عادة الناس في ذلك، وعادة الناس هي ما ذكر النسفي ا هـ. وعندي أنه ليس بحسن؛ لأن العامة عرفا لا تنحصر في هاتين؛ لأن العقيقة كذلك وكذا طعام القدوم من سفر الحج وفي زماننا يصنع طعام عام في العيدين فالمعتمد ما في الهداية وفي السراج الوهاج أنه أصح ما قيل في تفسيرها. ا هـ. واختاره شمس الأئمة السرخسي كما في المعراج وفي الخلاصة وهو الصحيح وجزم به قاضي خان في فتاويه بقوله، وإنما يعرف الخاص من العام إلى آخره، ولم يحك غيره فما قاله النسفي ليس بضابط فضلا عن كونه أضبط وكونها لا يعملها إلا لأجل القاضي ليس بخفي، وبعضه يعلم بالتصريح وبعضه يعلم بالقرائن كالصريح. قوله (ويشهد الجنازة ويعود المريض)؛ لأن هذا من حق المسلم على المسلم ففي الحديث: «للمسلم على المسلم ست حقوق إذا دعاه يجيبه وإذ مرض يعوده وإذا مات يحضره وإذا لقيه يسلم عليه وإذا استنصحه ينصحه وإذا عطس يشمته» كذا في النهاية وهو لا يسقط بالقضاء لكن لا يطيل مكثه في ذلك المكان، وإنما يعوده بشرط أن لا خصومة وإلا فلا. (قوله: وليسو بينهما جلوسا) أي يجب على القاضي التسوية بين الخصمين في الجلوس للحديث: «إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والنظر والإشارة، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين دون الآخر» رواه إسحاق بن راهويه وبمثله رواه الدارقطني ولأن في عدم التسوية مكسرة لقلب الآخر فيجلسهما بين يديه ولا يجلس واحدا عن يمينه والآخر عن يساره لأن لليمين فضلا أطلق في التسوية بينهما فشمل الشريف والوضيع والأب والابن والصغير والكبير والحر والعبد والسلطان وغيره، ولذا قال في النوازل والفتاوى الكبرى خاصم السلطان مع رجل فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه ينبغي للقاضي أن يقوم من مقامه ويجلس خصم السلطان فيه، ويقعد هو على الأرض ثم يقضي بينهما ا هـ. وهذا دليل على أن القاضي يقضي على السلطان الذي ولاه، والدليل عليه قصة شريح مع علي رضي الله عنه وشمل المسلم والذمي فيسوى بينهما كما في فتاوى قارئ الهداية وقيد بالجلوس؛ لأنه لا يجب عليه التسوية بينهما بالقلب، وإن كان أفضل فقد حكي في الولوالجية أن أبا يوسف وقت موته قال اللهم إنك تعلم أني لم أمل إلى أحد الخصمين حتى بالقلب إلا في خصومة نصراني مع الرشيد لم أسو بينهما وقضيت على الرشيد ثم بكى ومما حكي عن أبي يوسف أن خادما من أكبر خدام الخليفة جاء مع خصمه للدعوى فترافع على خصمه فأمره أبو يوسف بالمساواة فلم يمتثل فقال القفا يا غلام ائتني بعمرو النخاس يبيع هذا الخادم وأرسل ثمنه إلى أمير المؤمنين فاستوى وانقضت الدعوى، فذهب الخادم إلى الخليفة وقص عليه ما جرى وبكى بكاء شديدا فقال له لو باعك لأجزت بيعه ولم أردك إلى ملكي رحمه الله تعالى وينبغي للخصمين أن يجثوا بين يديه ولا يتربعان ولا يقعيان ولا يحتبيان، ولو فعلا ذلك منعهما القاضي تعظيما للحكم كما يجلس المتعلم بين يدي المعلم تعظيما له، ويكون بعدهما عنه قدر ذراعين أو نحو ذلك من غير أن يرفعا أصواتهما، وتقف أعوان القاضي بين يديه فيكون أهيب وقدمنا الخلاف بين الشيخين في ابتداء القاضي لهما بالسؤال وفي فتح القدير هنا، والأصح عندنا أنه يستنطقه ابتداء للعلم بالمقصود، ولا يتعجل عن الخصوم ولا يخوفهم، وينبغي أن يقوم بين يديه إذا جلس للحكم رجل يمنع الناس عن التقدم إليه مع سوط يقال له الجلواز، وصاحب المجلس يقيم الخصوم بين يديه على البعد والشهود بقرب من القاضي. قوله (وليتق عن مسارة أحدهما وإشارته وتلقين حجته وضيافته) أي وليجتنب عن هذه الأشياء؛ لأن فيها تهمة ومكسرة لقلب الآخر والمسارة من ساره في أذنه وتساروا تناجوا كذا في القاموس والمعنى أنه يجتنب الكلام معه خفية قيد بما ذكر لأنه لا يلزمه اجتناب ميل قلبه إلى أحدهما؛ لأنه ليس في وسعه كالقسم وفي الولوالجية، ولا ينبغي للذي يقوم بين يدي القاضي أن يسار أحدا من الخصمين في مجلس الحكم؛ لأنه نائب القاضي ا هـ. وأما منعه من ضيافة أحدهما فما رواه الحسن فقال جاء رجل فنزل على علي رضي الله عنه فأضافه فلما فرغ قال إني أريد أن أخاصم قال له تحول فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا ومعه خصمه قيد بضيافة أحدهما؛ لأن له أن يضيفهما معا لما رويناه. (قوله: والمزاح) أي وليتق المزاح في المصباح مزح مزحا من باب نفع ومزاحة بالفتح والاسم المزاح بالضم وهو الدعابة والمزاحة المرة ومازحت مزاحا من باب قاتل قتالا ا هـ. وفي الصحاح الدعابة بالضم المزاح من دعب لعب ا هـ. فعلى هذا المزاح اللعب. وأشار إلى أنه لا يضحك في وجه أحدهما فلا يقوم له إذا قدم بالأولى فلو قال المصنف والمزح لكان أولى؛ لأنه يجتنب المزح سواء مازحه أحد أو لا وسواء كان مع أحد الخصمين أو مع غيرهما، ومراده إذا كان في مجلس الحكم، وأما في غيره فلا يكثر منه؛ لأنه يذهب بالمهابة. قوله (وتلقين الشاهد) أي يجتنبه؛ لأن فيه إعانة لأحدهما على الآخر أطلقه فشمل ما إذا كان في موضع تهمة أو لا واستحسنه أبو يوسف في غير موضع التهمة؛ لأنه قد يقول أعلم مكان أشهد لمهابة المجلس وهو نوع رخصة عنده رجع إليه بعدما تولى القضاء والعزيمة فيما قالا؛ لأنه لا يخلو عن نوع تهمة وفي فتح القدير وظاهر الجواب ترجيح ما عن أبي يوسف وفي القنية من باب المفتي والفتوى على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لزيادة تجربته وكذا في البزازية من القضاء، والتلقين أن يقوله له القاضي كلاما يستفيد به علما، وذكر الصدر أن منه أن يقول له كيف تشهد، وإنما يقول له بم تشهد، وأما إفتاء القاضي فالصحيح أنه لا بأس به في مجلس القضاء وغيره لكن لا يفتي أحد الخصمين كذا في خزانة الفتاوى وفي الملتقط فأما اليوم فقد ظهرت المذاهب إلا إذا كانت مسألة لا يعرف جوابها في مذهب القاضي ا هـ. قيد بالشاهد لبيان أنه لا يلقن المدعي بالأولى وفي الخانية ولو أمر القاضي رجلين ليعلماه الدعوى والخصومة فلا بأس به خصوصا على قول أبي يوسف. قدمنا أنه مما يملكه القاضي على الممتنع عن إيفاء الحق وتعزيرا فكان من عمله فذكره فيه وهو في اللغة المنع، وهو مصدر حبسه من باب ضرب ثم أطلق على الموضع وجمع على حبوس مثل فلس وفلوس كذا في المصباح ودليله الكتاب {أو ينفوا من الأرض} والمراد منه الحبس والسنة «حبسه عليه الصلاة والسلام رجلا بالتهمة» والإجماع عليه، وكان في المسجد إلى زمن علي رضي الله عنه فبنى سجنا، وهو أول من بناه في الإسلام وسماه نافعا ولم يكن حصينا لكونه من قصب فانفلت الناس منه فبنى آخر وسماه مخيسا، وكان من مدر وفي ذلك يقول علي ألا تراني كيسا مكيسا بنيت بعد نافع مخيسا بابا حصينا وأمينا كيسا وفي رواية حصنا حصينا وفي رواية بدلت بدل بنيت وفي رواية بابا شديدا وفي رواية وأميرا بدل أمينا والمخيس بالخاء المعجمة والتاء المثناة الفوقية موضع التخييس بياءين وهو التذليل وروي بكسر الياء؛ لأنه يذلل من وقع فيه. والكيس حسن التأني في الأمور والكيس المنسوب إلى الكيس المعروف به وأمينا أراد ونصبت أمينا يعني السجان كقوله متقلدا سيفا ورمحا كذا في الفائق، وصفة الحبس أن يكون في موضع ليس فيه فراش ولا وطاء ولا يمكن أحد يدخل عليه للاستئناس إلا أقاربه وجيرانه ولا يمكثون ولا يخرج لجمعة ولا جماعة ولا لحج فرض ولا لحضور جنازة ولو بكفيل وفي الخلاصة يخرج بكفيل لجنازة الوالدين والأجداد والجدات والأولاد وفي غيرهم لا يخرج وعليه الفتوى ا هـ. وتعقبه في فتح القدير بأن محمدا ا نص على خلافه وقد يدفع بأن نص محمد في المديون أصالة، والكلام في الكفيل ولا لمجيء رمضان والعيدين ليضجر قلبه ويوفي ولا لموت قريبه إلا إذا لم يوجد من يغسله ويكفنه فيخرج لقرابة الولاد، وإن مرض مرضا أضناه فإن وجد من يخدمه لا يخرج، وإلا أخرج بكفيل وإلا لا يطلقه وحضرة الخصم ليست شرطا ولا يخرج للمعالجة لإمكانها في السجن ولا يمنع من الجماع إن احتاج إليه فتدخل امرأته أو جاريته عليه إن كان فيه موضع سترة، واختلفوا في منعه من الكسب، والأصح المنع كذا في الخلاصة ولا يضرب المديون ولا يقيد ولا يغل ولا يجرد ولا يؤاجر ولا يقام بين يدي صاحب الحق إهانة وفي المنتقى إذا خاف فراره قيده كذا في البزازية، وفيها إذا خيف أنه يفر من السجن يحول إلى سجن اللصوص وإذا جلس المحبوس في السجن متعنتا لا يوفي المال قال الإمام الأرسابندي يطين الباب ويترك له ثقبة يلقى منها الماء والخبز، وقال القاضي: الرأي فيه إلى القاضي. ا هـ. وفي الخانية إذا كان للمحبوس ديون على الناس فإن القاضي يخرجه ليخاصم ثم يحبس. ا هـ. وصرحوا في كتاب الظهار أنه إذا امتنع من التكفير مع قدرته يضرب وصرحوا في كتاب النفقات أنه لو امتنع من الإنفاق على قريبه يضرب بخلاف سائر الديون ا هـ. وعن أبي يوسف أن القاضي يؤجره لقضاء دينه وعليه حمل ما في الحديث من أنه باع حرا في دينه أي أجره وتعيين مكان الحبس للقاضي إلا إذا طلب المدعي مكانا آخر لما في القنية ادعى على بنته مالا، وأمر القاضي بحبسها فطلب الأب منه أن يحبسها في موضع آخر غير السجن حتى لا يضيع عرضه يجيبه القاضي إلى ذلك، وكذا في كل مدع مع المدعى عليه ا هـ. وفي المحيط، ويجعل للنساء سجن على حدة نفيا لوقوع الفتنة. (قوله: وإذا ثبت الحق للمدعي أمره بدفع ما عليه فإن أبى حبسه في الثمن والقرض والمهر المعجل وما التزمه بالكفالة)؛ لأنه جزاء الظلم وقد صار ظالما بمنعه أطلقه وقيده في الهداية بالقاضي فظاهره أن المحكم لا يحبس ولم أره الآن صريحا أطلق الثبوت فشمل ما إذا كان ببينة أو بإقرار وفرق بينهما في الهداية بأنه إذا ثبت بالبينة عجل حبسه لظهور المطل بإنكاره، وإلا لم يعجل فإذا امتنع حبسه وهو المذهب عندنا وعكسه شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه إذا ثبت بالبينة ربما تعلل بأنه لم يعلم به إلا الآن، وقد فرق الحلواني بين ما ثبت بالبينة فيخبره القاضي أنه يريد القضاء، ويقول ألك مخرج وبين ما ثبت بالإقرار فلا يعلمه وتمامه في شرح أدب القضاء للخصاف، والأحسن إطلاق الكتاب من الأمر بالإيفاء مطلقا فلا يعجل بحبسه، وذكر الشارح أن الصواب أنه لا يحبسه حتى يسأله فإن أقر أن له مالا أمره بالدفع فإن أبى حبسه وإلا سأل المدعي عن البينة أن له مالا فإن برهن أمره بالدفع فإن أبى حبسه، وإن عجز واختلفا فالقول للمدعي في الأشياء الأربعة وللمدعى عليه في غيرها. ا هـ. ونقله في البناية عن الخصاف، وهو خلاف المذهب ولكن يسأل المدعي عن ماله إذا طلب المديون إجماعا كذا في شرح الصدر أطلق الحق فشمل القليل والكثير ولو دانقا وهو سدس درهم، ولو قال حبسه بطلب المدعي لكان أولى كما ذكره قاضي خان وقال شريح يحبسه من غير طلبه كذا في البناية ولو قال المديون أبيع عرضي وأقضي ديني أجله القاضي ثلاثة ولا يحبسه ولو له عقار يحبسه ليبيعه ويقضي الدين، ولو بثمن قليل إن وجد المديون من يقرضه ليقضي به دينه فلم يفعل فهو ظالم كذا في البزازية وفي كراهية القنية ولو كان للمديون حرفة تفضي إلى قضاء دينه فامتنع منها لا يعذر ا هـ. وأطلق الثمن فشمل الأجرة الواجبة؛ لأنها ثمن المنافع وشمل ما على المشتري وما على البائع بعد فسخ البيع بينهما بإقالة أو خيار، وشمل رأس مال السلم بعد الإقالة وما إذا قبض المشتري المبيع أو لا ولا شك في دخول الأجرة تحت قولهم أو التزمه بعقد إن لم تجعل ثمن المنافع، ويتفاوت الحال فإن دخلت تحت ما كان بدل مال حبسه عليها على فتوى قاضي خان أيضا، وإلا لم يحبس عليها على ما أفتى به ولم أر من صرح بها لكن لم يذكر المؤلف حبسه على العين المغصوبة هنا. وذكره في كتاب الغصب بنفي الأمانات إذا امتنع الأمين من دفعها غير مدع لهلاكها فإنه يحبس عليه، وصارت مغصوبة وما في تهذيب القلانسي وهو إذا ثبت الحق بإقرار أو بحكم بنكوله أو ببينة فمطل المطلوب عن تسليمه، وطلب الطالب حبسه أمره بحبسه في كل عين يقدر على تسليمها وفي كل دين لزمه بدلا عن مال كثمن المبيع وبدل القرض والمغصوب ونحوه أو بالتزامه بعقد كالمهر والكفالة ا هـ. أولى كما لا يخفى ولشموله الحكم بالنكول بخلاف من قيد ثبوت الحق بالبينة أو الإقرار، وأشار المؤلف إلى حبس الكفيل والأصيل معا الكفيل بما التزمه والأصيل بما لزمه بدلا عن مال وللكفيل بالأمر حبس الأصيل إذا حبس كذا في المحيط وفي البزازية يتمكن المكفول له من حبس الكفيل والأصيل وكفيل الكفيل وإن كثروا ا هـ. وإلى تعدد حبسه لتعدد الطالب، فلو حبس بدين ثم جاء آخر وادعى الدين عليه أخرجه من الحبس، وجمع بينه وبين المدعي فإن برهن على دعواه كتب اسمه واسم الأول ثم إن برهن آخر كتب اسمه أيضا وحبسه للكل، ويكتب التاريخ أيضا كذا في البزازية وأطلقه فأفاد أن المسلم يحبس بدين الذمي والمستأمن وعكسه. وفي البزازية لهما على رجل دين لأحدهما أقل وللآخر الأكثر لصاحب الأقل حبسه وليس لصاحب الكثير إطلاقه بلا رضاه، وإن أراد أحدهما إطلاقه بعدما رضيا بحبسه ليس له ذلك وفي القنية حبس لصاحب الدين الأقل فلصاحب الدين الأكثر إطلاقه ليكتسب ويؤدي له ا هـ. وإلى أنه لا يحبس مع المديون أحد غير كفيله فإذا لزم حبس المرأة لا يحبسها مع الزوج، وتحبس في بيت الزوج كذا في البزازية فإذا حبست المرأة زوجها لا تحبس معه كذا في الخلاصة، وفي مآل الفتاوى إذا خيف عليها الفساد اختار المتأخرون حبسها معه ا هـ. وفي خزانة الفتاوى استحسن بعض المتأخرين أن تحبس معه إذا كان مخوفا عليها ا هـ. وفي البزازية واستحسن بعض المتأخرين أن تحبس المرأة إذا حبس الزوج، وكان قاضي شاه لامش يحبسها معه صيانة لها عن الفجور. ا هـ. وقيد المهر بالمعجل؛ لأنه لا يحبس في المؤجل ويصدق في الإعسار وعليه الفتوى وفي الأصل لا يصدق في الصداق بلا فصل بين مؤجله ومعجله كذا في البزازية، ثم اعلم أن قاضي خان في الفتاوى رجح الاقتصار على الأول فقال: وقال بعضهم وإن كان الدين واجبا بدلا عما هو مال كالقرض وثمن المبيع فالقول قول مدعي اليسار مروي ذلك عن أبي حنيفة وعليه الفتوى؛ لأن قدرته كانت ثابتة في المبدل فلا يقبل قوله في زوال تلك القدرة وإن لم يكن الدين بدلا عما هو مال فالقول للمديون، وقال بعضهم ما وجب بعقد لم يقبل قوله وإن لم يكن بدلا عما هو مال. ا هـ. فقد علمت أن الفتوى على الأول، وهو أنه لا يحبس إلا فيما كان بدلا عن مال فلا يحبس في المهر، والكفالة على المفتى به وهو خلاف مختار المصنف تبعا لصاحب الهداية، وذكر الطرسوسي في أنفع الوسائل أنه المذهب المفتى به، فقد اختلف الإفتاء فيما التزمه بعقد ولم يكن بدل مال، والعمل على ما في المتون؛ لأنه إذا تعارض ما في المتون والفتاوى فالمعتمد ما في المتون كما في أنفع الوسائل، وكذا يقدم ما في الشروح على ما في الفتاوى، وقيل القول للمديون في الكل وقيل للدائن في الكل وقيل يحكم الزي إلا في الفقهاء والعلوية والزي كما في القاموس بالكسر الهيئة والجمع أزياء. ا هـ. وصححه الكرابيسي في الفروق وفي المحيط أنه ظاهر الرواية وبه علم أن ما في المختصر خلاف ظاهر الرواية والمفتى به وأطلق المديون فشمل المكاتب والعبد المأذون والصبي المحجور فإنهم يحبسون لكن الصبي لا يحبس بدين الاستهلاك بل يحبس والده أو وصيه فإن لم يكونا أمر القاضي رجلا ببيع ماله في دينه كذا في البزازية. قوله (لا في غيره إن ادعى الفقر إلا أن يثبت غريمه غناه فيحبسه بما رأى) أي لا يحبسه في غير ما ذكرنا مما كان بدلا عن مال أو ملتزما بعقد إن ادعى أنه معسر؛ لأن الأصل في الآدمي العسرة، والمدعي يدعي أمرا عارضا وهو الغناء فلم يقبل منه إلا ببينة، ويدخل تحت الغير تسع صور: بدل الخلع وبدل عتق نصيب الشريك وبدل المغصوب ونفقة الزوجات ونفقة الأقارب وأروش الجنايات وبدل دم العمد، وما تأخر من المهر بعد الدخول وبدل المتلفات، وذكر الطرسوسي وأخطأ صاحب المختار في نقل الحكم في الخلع فإنه جعله مع ثمن المتاع والقرض، وقال: القول قول رب الدين ولا يلتفت إلى ما قاله المديون وهو المرأة أو الأجنبي ا هـ. وقد يقال إن بدل الخلع مما التزم بعقد فإن الخلع بمال عقد بإيجاب وقبول، ويشكل بدل الصلح عن دم العمد فإنهم جعلوا فيه القول قول المديون مع أنه التزمه بعقد، وكذا يشكل مؤجل المهر فإنه التزمه بعقد، وهو نظير الكفالة بالدرك فإن مقتضى إطلاقهم الكفالة وما التزمه بعقد أن لا يقبل قوله فيها، ومقتضى تقييد المهر بالمعجل قبول قوله لأنها كالمهر المؤجل لأنها لا تلزمه إلا بعد استحقاق المبيع. وذكر الطرسوسي فإن ادعى المديون أنه لزمه عما ليس بمال وادعى الدائن أنه ثمن متاع لم يذكرها الأصحاب، وينبغي أن يكون القول فيها قول المديون إلا أن يقيم رب الدين البينة ا هـ. وفي نفقات البزازية وإن لم يكن لها بينة على يساره، وطلبت من القاضي أن يسأل من جيرانه لا يجب عليه السؤال، وإن سأل كان حسنا فإن سأل فأخبره عدلان بيساره ثبت اليسار بخلاف سائر الديون حيث لا يثبت اليسار بالإخبار، وإن قالا سمعنا أنه موسر أو بلغنا ذلك لا يقبله القاضي ا هـ. ولو قال المديون حلفه أنه ما يعلم أني معسر يجيبه القاضي إلى ذلك، ويحلفه أنه ما يعلم إعساره فإن حلف حبسه بطلبه، وإن نكل لا يحبسه كذا في البزازية معزيا إلى الحلواني، والمراد بقوله غناه قدرته الآن على قضاء الدين فلو كان للمحبوس مال في بلد آخر يطلقه بكفيل فإن علم القاضي عسرته لكن له مال على آخر يتقاضى غريمه فإن حبس غريمه الموسر لا يحبسه كذا في البزازية، وقياس الأولى أنه لو كان له مال غائب لا يحبسه، وقوله بما رأى أي لا تقدير لمدة حبسه، وإنما هو مفوض إلى رأي القاضي لأنه للضجر والتسارع لقضاء الدين وأحوال الناس فيه متفاوتة وقدره في كتاب الكفالة بشهرين أو ثلاثة، وفي رواية الحسن بأربعة وفي رواية الطحاوي بنصف الحول. والصحيح ما ذكره المصنف كما في البزازية فلو رأى القاضي إطلاقه بعد يوم فظاهر كلامهم أن له ذلك قال في المحيط إن شاء يسأل عنه قبل مضي شهر ا هـ. وذكر الصدر الشهيد إن كان الرجل لينا أو صاحب عيال وشكا عياله إلى القاضي حبسه شهرا، ثم سأل عنه وإن كان وقحا حبسه ستة أشهر ثم سأل عنه، هذا إذا كان حاله مشكلا عند القاضي، إلا عمل بما ظهر له. (قوله: ثم يسأل عنه) أي يسأل القاضي عن المحبوس بعد حبسه بقدر ما يراه من جيرانه فإن قامت بينة على إعساره أطلقه ولا يحتاج إلى لفظ الشهادة وشرطه في الصغرى والعدل الواحد يكفي والاثنان أحوط وكيفيته أن يقول المخبر إن حال المعسرين في نفقته وكسوته وحالته ضيقة، وقد اختبرنا في السر والعلانية ولا يشترط لسماعها حضور رب الدين فإن كان غائبا سمعها، أطلقه بكفيل كذا في البزازية قال الطرسوسي: المستور كالعدل، أما الفاسق فلا يقبل خبره، وتعقب الزيلعي في ذكر العدالة، أنه من كلامه لا أنه نقل المذهب ا هـ. وفيه نظر لقوله في الخلاصة والبزازية وإنما يسأل من الثقات ا هـ. وهم العدول فليس ذكرها من كلامه، ثم اعلم أن قولهم إن الواحد يكفي مقيد بما إذا لم يكن الحال حال منازعة أما إذا كان حال منازعة بأن ادعى المطلوب أنه معسر وادعى الطالب أنه موسر فلا بد من إقامة البينة كذا في السراج الوهاج معزيا إلى النهاية، وظاهر إطلاق المصنف أن الحبس أولا ثم السؤال في حق كل أحد ولكن في البزازية إن كان أمر المديون ظاهرا عند الناس فالقاضي يقبل بينة الإعسار ويخليه قبل المدة التي يذكرها، وإن كان أمره مشكلا هل يقبل البينة قبل الحبس فيه روايتان ا هـ. وفي الملتقط قال أبو حنيفة لا أسأل عن المعسر وأحبسه شهرين أو ثلاثة، ثم أسأل عنه إلا إذا كان معروفا بالعسرة فلا أحبسه ا هـ. وفيه أيضا ولو معسرا عليه دين وله على موسر دين يعلم به القاضي يحبس المعسر حتى يطالب الموسر فإذا طالبه وحبس الموسر أطلق المعسر ا هـ. وفي البزازية ولو للمحبوس مال في بلد آخر يطلقه بكفيل وإن علم القاضي عسرته لكن له مال على آخر يتقاضى غريمه فإن حبس غريمه الموسر لا يحبسه. ا هـ. وظاهر كلامهم أن القاضي لا يحبس المديون إذا علم أن له مالا غائبا أو محبوسا موسرا، وأنه يطلقه إذا علم بأحدهما. قوله (فإن لم يظهر له مال خلاه) أي أطلقه من الحبس؛ لأن عسرته ثبتت عنده فاستحق النظرة إلى الميسرة للآية فحبسه بعده يكون ظلما، وظاهره أنه يطلقه بلا كفيل قلت: إلا في مال اليتيم لما في البزازية ولو للميت على رجل دين له ورثة صغار وكبار لا يطلقه من الحبس قبل الاستيثاق بكفيل للصغار. ا هـ. وقدمنا أنه يطلقه بكفيل إذا كان رب الدين غائبا وينبغي أن يكون مال الوقف كمال اليتيم فلا يطلقه القاضي إلا بكفيل فهي ثلاثة مواضع مستثناة، والكلام في إطلاقه جبرا على رب الدين فلو أطلقه رب الدين من غير بينة على إفلاسه ورضي المحبوس جاز ولا يتوقف على حضور القاضي كما في البزازية إلا في مال اليتيم فلا يطلقه الوصي وفي وصايا القنية حبس الوصي غريما بدين الصبي ليس له أن يطلقه قبل قضائه إذا كان موسرا، وإن رأى أن يأخذ منه كفيلا ويطلقه فله ذلك ثم رقم آخر إذا كان معسرا جاز إطلاقه ا هـ. فتحرر أن المعسر يجوز إطلاقه اتفاقا، وفي الموسر خلاف وقيدنا برضا المحبوس لما في القنية المحبوس بالدين أقام البينة على إفلاسه فأراد رب الدين أن يطلقه قبل القضاء بإفلاسه وأبى المحبوس أن يخرج حتى يقضى بإفلاسه، يجب على القاضي القضاء به حتى لا يعيده رب الدين ثانيا قبل ظهور غناه ا هـ. وإذا أطلقه بلا بينة فله إعادته إلى الحبس كما في أنفع الوسائل، وأشار بقوله خلاه إلى أنه لا يحبسه مرة أخرى للأول ولا لغيره حتى يثبت غريمه غناه لما في البزازية أطلق القاضي المحبوس لإفلاسه ثم ادعى عليه آخر مالا، وادعى أنه موسر لا يحبسه حتى يعلم يسره ا هـ. وظهور عدم مال له بالشهادة بأنه لا مال له، وقال الخصاف يثبت الإفلاس بقول الشهود هو فقير لا نعلم له مالا ولا عرضا يخرج به عن الفقر وعن الصغار يشهدون أنه مفلس معدم لا نعلم له مالا سوى كسوته وثيابه ليلة، واختبرناه سرا وعلنا ا هـ. وفي أنفع الوسائل ولا تكون هذه شهادة على النفي فإن الإعسار بعد اليسار أمر حادث فتكون شهادة بأمر حادث لا بالنفي نبه عليه السغناقي ا هـ. واعلم أن الإخراج بمضي المدة مع إخبار واحد بحال المحبوس لا يكون من باب الثبوت حتى لا يجوز للقاضي أن يقول ثبت عندي أنه معسر كذا في أنفع الوسائل وفي النوازل فقير لا شيء ولا يجد من يكفله بنفسه لا يحبسه القاضي وخلى بينه وبين الغريم إن شاء لازمه وإن شاء ترك ا هـ. وفي الخانية فإن أحضر المحبوس المال ورب الدين غائب يريد تطويل الحبس عليه، فإن كان القاضي يعلم بالدين ومقداره وصاحبه فإن شاء أخذ المال وخلاه، وإن شاء أخذ منه كفيلا ثقة بالمال والنفس وخلى سبيله ولو مات الطالب والقاضي الذي حبسه وارثه لا غير قال بعضهم يخلى سبيله كي لا يتهمه الناس، وقال بعضهم بتركه في السجن حتى يقضي الدين ا هـ. قوله (ولم يحل بينه وبين غرمائه) أي لا يمنعهم من ملازمته عند الإمام وقالا بالمنع عنها لكونه منظرا بإنظار الله تعالى وهي أقوى من إنظار العبد بالتأجيل، ومعه لا ملازمة وله أنه منظر إلى قدرته على الإيفاء وهو ممكن كل حين فيلازمونه كي لا يخفيه، والدين حال بخلاف الأجل؛ لأنه لا مطالبة له قبل مضيه، ولو كان المديون قادرا فظهر الفرق، وبطل القياس ولذا قال في أنفع الوسائل إن الصحيح قوله دائما هو الصحيح وفي المحيط أنه ظاهر الرواية وأحسن الأقاويل في الملازمة ما روي عن محمد أنه قال يلازمه في قيامه وقعوده ولا يمنعه من الدخول على أهله ولا من الغداء ولا من العشاء ولا من الوضوء والخلاء، وله أن يلازمه بنفسه وإخوانه وولده ومن أحب، والصحيح أن الرأي فيه إلى صاحب الدين إن شاء لازمه بنفسه وإن شاء بغيره ولا عبرة بالمديون في رأيه وفي المحيط قالوا لا يلازمه بالليالي؛ لأن الليالي ليست بوقت الكسب فلا يتوهم وقوع المال في يده في الليالي فالملازمة لا تفيد حتى لو كان الرجل يكتسب في الليالي، قالوا يلازمه في الليالي هكذا قال الفقيه أبو جعفر. ا هـ. وفي البزازية لا يلازمه في موضع معين؛ لأنه حبس، ولا يمنعه من دخول بيته لغائط أو غداء إلا إذا أعطاه الدائن، وأعد له مكانا للغائط وإن كان عمل المديون السقي ولا يمنعه اللزوم من ذلك لازمه إلا إذا أعطاه نفقته ونفقة عياله فله إذا منعه من السعي لو أبى المديون ملازمة الغريم، وقال اجلس مع الدائن له ذلك وليس للدائن أن يجلسه في الشمس أو على الثلج أو في مكان يتضرر به، ولو طلب المطلوب الحبس والطالب الملازمة لازمه وملازمة المرأة أن تلازمها امرأة فإن لم يوجد حبسها في بيت مع امرأة، وجلس هو على الباب أو المرأة في بيت نفسها وهو على الباب، وليس له غير ذلك وعن محمد المرأة يلازمها الرجال بالنهار في موضع لا يخاف عليها الفساد ولا يخلون بها وبالليل يلازمها النساء وفي الواقعات عليها حق له أن يلازمها ويجلس معها ويقبض على ثيابها؛ لأن هذا ليس بحرام فإن هربت إلى خربة إذا كان يأمن على نفسه يدخل عليها، ويكون بعيدا منها لحفظ نفسه؛ لأن له ضرورة في هذه الخلوة كما قالوا فيمن هرب بمتاع إنسان، ودخل داره له أن يدخل عقيبه ليأخذ حقه لو ادعى على آخر مالا ولم يجلس القاضي أياما لازم خصمه أياما وإن طال ا هـ. وفي الهداية لو اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار للطالب إلا إذا علم القاضي أن بالملازمة يدخل عليه ضرر بين بأن لا يمكنه من دخول داره فحينئذ يحبسه دفعا للضرر. ا هـ. وفي البزازية ويجوز الجلوس في المسجد لغير الصلاة لملازمة الغريم قال القاضي المذهب عندنا أنه لا يلازمه في المسجد؛ لأنه بني لذكر الله تعالى وبه يفتى وفيها أيضا إن كان في ملازمة الغريم، ذهاب قوته كلف أن يقيم كفيلا بنفسه، ثم يخلي سبيله وللطالب ملازمة الغريم بلا أمر القاضي إن كان مقرا بحقه. قوله (ورد البينة على إفلاسه قبل حبسه)؛ لأنها بينة نفي فلا تقبل ما لم تتأيد بمؤيد، وهو الحبس وبعده تقبل على سبيل الاحتياط لا على وجه الوجوب، وما ذكره في الكتاب هو ما اختاره عامة المشايخ كما في الهداية وهو الصحيح كما في النهاية وروي عن محمد قبولها وبه كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل ونصير بن يحيى وفي الخانية، وينبغي أن يكون مفوضا إلى القاضي إن علم أنه وقح لا تقبل بينته قبل الحبس وإن علم أنه لين قبلت بينته وفسر الطرسوسي الوقاحة بالإغلاظ على المدعي في القول، واللين بالتلطف فيه ونظيره ما قال الخصاف في تعيين مدة الحبس إن كان المديون سمحا يأخذ القاضي برواية الكفالة من التقدير بشهرين أو بثلاثة، وإن كان مفتيا أخذ بالأكثر كذا في البزازية. (قوله: وبينة اليسار أحق) أي من بينة الإعسار بالقبول عند التعارض؛ لأن اليسار عارض والبينة للإثبات وفي البزازية كبينة الإبراء مع بينة الإقراض، وفي الخانية وإن شهدوا أنه موسر قادر على قضاء الدين جاز وكفى، ولا يشترط تعيين المال ا هـ. واستثنى في فتح القدير من تقديم بينة اليسار ما لو قال المدعي أنه موسر، وقال المدعى عليه أعسرت بعد ذلك، وأقام بذلك بينة فإنها تقدم؛ لأن معها علما بأمر حادث وهو حدوث ذهاب المال. ا هـ. والظاهر أنه بحث منه وليس بصحيح لجواز حدوث اليسار بعد إعساره الذي ادعاه أطلق في قبول بينة اليسار فأفاد قبولها، وإن لم يذكروا مقدار ما ملكه وفي البزازية، ولم يشترط بيان ما به اليسار لأن المقصود منها دوام الحبس عليه، ولم يبينوا مقدار ما يملك، ولو بينوا مقدار ما يملك لم يمكن قبولها وتمامه في القنية وفي العناية فإن قيل محمد قبل البينة على اليسار وهو لا يثبت إلا بالملك وتعذر القضاء به لأنهم لم يشهدوا بمقداره، ولم يقبل فيما إذا أنكر المشتري جوار الشفيع وأنكر ملكه في الدار فبرهن الشفيع أن له نصيبا في هذه الدار، ولم يبينوا مقداره وأجيب بأن الشاهد على اليسار شاهد على قدرته على أداء الدين، وهي لا تكون إلا بملك مقدار الدين فثبت بها قدر الملك وفي النصيب لم يشهدوا بشيء معلوم فافترقا ا هـ. قوله (وأبد حبس الموسر)؛ لأنه جزاء الظلم فإذا امتنع من إيفاء الحق مع القدرة عليه خلده في الحبس، وأما كونه يعجل القاضي حبسه أو لا يحبسه حتى تظهر مماطلته فقدمناه ولذا حمل صاحب الهداية قوله في الجامع الصغير أنه يؤبد حبس الموسر إذا أقر على ما إذا أقر عند غير القاضي أو عنده مرة فظهرت مماطلته. قوله (ويحبس الرجل بنفقة زوجته)؛ لأنه ظالم بالامتناع عن الإنفاق قيدنا بالامتناع؛ لأنه لا يحبس في النفقة الماضية لأنها تسقط بمضي الزمان، وإن لم تسقط بأن حكم الحاكم بها أو اصطلح الزوجان عليها فلأنها ليست ببدل عن مال ولا لزمته بعقد كذا ذكر الشارح، ومراده أن النفقة الواجبة المجتمعة داخلة تحت قوله لا في غيره فلا يحبس عليها إن ادعى الفقر إلا أن تثبت المرأة يساره، فإذا ادعت المرأة بنفقة أو كسوة مقررة اجتمعت عليه، وقال إني فقير فالقول له مع يمينه، ولا يحبس إذا حلف فإن أقامت بينة على يساره وطلبت حبسه حبسه القاضي. (قوله: لا في دين ولده) أي لا يحبس أصل في دين فرعه؛ لأنه لا يستحق العقوبة بسبب ولده ولذا لا قصاص عليه بقتله ولا بقتل مورثه، ولا يحد بقذفه ولا بقذف أمه الميتة بطلبه، وقولهم هنا أنه لا قصاص بقتله يقتضي أن المراد الأصل أبا أو أما أو جدا لأب أو لأم لتصريحهم في باب الجنايات أن الجد لأم لا قصاص عليه بقتل ولد بنته فكذا لا يحبس بدينه وفي المحيط ولا يحبس الأبوان والجدان والجدتان إلا في النفقة لولدهما ا هـ. وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق بين الموسر والمعسر ولكن ينبغي أن يتنبه لشيء وهو أنه إذا كان موسرا وامتنع من قضاء دين ولده، وقلنا لا يحبس فالقاضي يقضي دينه من ماله إن كان من جنسه وإلا باعه للقضاء كبيعه مال المحبوس الممتنع عن قضاء دينه، والصحيح عندهما بيع عقاره كمنقوله، ولو قال المديون: أبيع عرضي وأقضي ديني أجله القاضي ثلاثة ولا يحبسه ولو له عقار يحبسه ليبيعه ويقضي الدين ولو بثمن قليل كما في البزازية، وسيأتي تمامه في الحجر إن شاء الله تعالى فيبيع القاضي مال الأب لقضاء دين ابنه إذا امتنع؛ لأنه لا طريق له إلا البيع، وإلا ضاع وقيد بدين الولد؛ لأن الولد يحبس بدين أصله، ويحبس القريب بدين قريبه كما في الخانية وقد كتبنا في الفوائد الفقهية أن من لا يحبس سبعة الأول الأصل في دين فرعه. الثاني المولى في دين عبده المأذون غير المديون وإن مديونا يحبس لحق الغرماء. الثالث العبد لا يحبس بدين مولاه أطلقه الشارح فظاهره ولو كان مديونا. الرابع المولى لا يحبس بدين مكاتبه إن كان من جنس بدل الكتابة لوقوع المقاصة، وإلا يحبس لتوقفها على الرضا. الخامس لا يحبس المكاتب بدين الكتابة وإن كان دينا آخر يحبس به للمولى ومنهم من منعه لأنه يتمكن من إسقاطه بالتعجيز، وصححه في المبسوط وعليه الفتوى كما في أنفع الوسائل. السادس لا يحبس صبي على دين الاستهلاك ولو له مال من عروض وعقار إذا لم يكن له أب ولا وصي والرأي إلى القاضي فيأذن في بيع بعض ماله للإيفاء، وإن كان له أب أو وصي فإنه يحبس إذا امتنع من قضاء دينه من ماله، ولا يحبس الصبي إلا بطريق التأديب حتى لا يتجاسر إلى مثله إذا باشر شيئا من أسباب التعدي قصدا، أما إذا كان خطأ فلا كذا في المبسوط من كتاب الكفالة وفي المحيط وللقاضي أن يحبس الصبي التاجر على وجه التأديب لا على وجه العقوبة حتى لا يماطل حقوق العباد فإن الصبي يؤدب لينزجر عن الأفعال الذميمة. السابع إذا كان للعاقلة عطاء لا يحبسون في دية وأرش، ويؤخذ من العطاء وإن لم يكن لهم عطاء يحبسون كذا في البزازية، ويزاد هنا مسألتان قدمناهما لا يحبس المديون إذا علم القاضي أن له مالا غائبا أو محبوسا موسرا فصارت تسعا. قوله (إلا إذا امتنع من الإنفاق عليه) فيحبس؛ لأنها لحاجة الوقت وهو بالمنع قصد إهلاكه فيحبس لدفع الهلاك عنه، ألا ترى أن له قتله دفعا عن نفسه وهكذا حكم الأجداد والجدات وإن علوا؛ لأن في ترك الإنفاق سعيا في هلاكهم، وقيد في السراج الوهاج الولد بالصغر والفقر فظاهره أنه إذا كان بالغا زمنا فقيرا لا يحبس أبوه إذا امتنع من الإنفاق عليه مع أن النفقة واجبة عليه وفيه تأمل لا يخفى. والحاصل أنه إذا امتنع من الإنفاق على أصله وإن علا وفرعه وإن سفل وعلى زوجته يحبس، وفي فتح القدير ويتحقق الامتناع بأن تقدمه في اليوم الثاني من يوم فرض النفقة، وإن كان مقدار النفقة قليلا كالدانق إذا رأى القاضي ذلك فأما بمجرد فرضها لو طلبت حبسه لم يحبسه؛ لأن العقوبة تستحق بالظلم وهو بالمنع بعد الوجوب، ولم يتحقق فهذا يقتضي أنه إذا لم يفرض لها ولم ينفق الزوج عليها في يوم ينبغي إذا قدمته في اليوم الثاني أن يأمره بالإنفاق فإن رجع فلم ينفق أوجعه عقوبة، وإن كانت النفقة سقطت بعد الوجوب فإنه ظالم لها، وهو قياس ما أسلفناه في باب القسم من قولهم إذا لم يقسم لها فرفعته يأمره بالقسم وعدم الجور فإن ذهب ولم يقسم فرفعته أوجعه عقوبة، وإن كان ما ذهب لها من الحق لا يقضى ويحصل بذلك ضرر كبير ا هـ. وفي فتاوى قارئ الهداية إذا لم يكن الزوج صاحب مائدة وعلم القاضي أنه يضارها في الإنفاق فرض نفقتها عليه دراهم بقدر حالهما، وإذا امتنع من أن يفرض شيئا حبس حتى يفرض ا هـ. وهو مشكل؛ لأن القاضي يفرض إذا امتنع فلا حاجة إلى فرض الزوج ليحبس إذا امتنع. والله أعلم.
|